التفاسير

< >
عرض

قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
١٥١
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُواْ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
١٥٢
-الأنعام

حاشية الصاوي

قوله: { قُلْ تَعَالَوْاْ } لما أقام الله سبحانه وتعالى الحجة على الكفار، بأنه تحليل ولا تحريم إلا بما أحله الله أو حرمه كأن سائلاً قال: وما الذي حرمه وأحله؟ فقال سبحانه: { قُلْ تَعَالَوْاْ } الخ، وتعالوا فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، وهو في الأصل موضوع لطلب ارتفاع من مكان سافل إلى مكان عال، ثم استعمل في الاقبال والحضور مطلقاً، وآثرها إشارة إلى أنهم في أسفل الدركات، وهو يطلبهم للرفع والعلو من أخس الأوصاف إلى أكملها وأعلاها، كأنه قال اقبلوا إلى المعالي، لأن من سمع أحكام الله وقبلها بنصح، كان في أعلى المراتب. قوله: { أَتْلُ } جواب الأمر مجزوم بحذف الواو، والضمة دل عليها، وقيل جواب لشرط محذوف تقديره إن تأتوا أتل، أي اقرأ ما حرم الله عليكم.
قوله: { مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ } ما اسم موصول، وحرم صلته، والعائد محذوف، وربكم فاعل حرم، وقوله: { عَلَيْكُمْ } تنازعه كل من أتل وحرم، أعمل الثاني، واضمر في الأول وحذف لأنه فضلة. وحاصل ما ذكر في هاتين الآيتين عشرة أشياء: خمسة بصيغ النهي، وخمسة بصيغ الأمر، وقدم المنهي عنه لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولأن المنهي عنه مأمور باجتنابه مطلقاً، والمأمور به على حسب الاستطاعة لما في الحديث
"ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم" . ووسط بينهما الأمر ببر الوالدين اعتناء بشأنه، لكونه أعظم الواجبات بعد التوحيد، وهذه العشرة لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار، بل أجمع عليها جميع أهل الأديان، قال ابن عباس: هذه آيات محكمات، لم ينسخهن شيء في جميع الكتب، وهن محرمات على بني آدم كلهم، وهن أم الكتاب، من عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار. قوله: { أَنْ } (مفسرة) أي وضابطها موجود، وهو أن يتقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه، واستشكل بأن هذا يقتضي أن جميع ما يأتي محرم، مع أن بعضه مأمور بفعله على سبيل الوجوب. أجيب بأجوبة منها: أن التحريم في المنهي عنه ظاهر وفي المأمور به باعتبار أضدادها، فالمعنى حرم فعلاً وهي المنهيات، أو تركاً وهي المأمورات، ومنها أن في الكلام حذف الواو مع ما عطفت، والتقدير ما حرم ربكم عليكم وما أمركم به، ثم فرع بعد ذلك على المذكور والمحذوف، والأقرب الأول.
قوله: { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } أي لا في الأقوال، ولا في الأفعال، ولا في الاعتقادات. قوله: { إِحْسَاناً } مفعول مطلق لفعل محذوف قدره المفسر بقوله: (أحسنوا) والمراد بالوالدين الأب والأم وإن علياً. قوله: (بالوأد) تقدم أنه الدفن بالحياة. قوله: { مِّنْ إمْلاَقٍ } يطلق بمعنى الفقر والافلاس والافساد، والمراد هنا الأول. قوله: نحن { نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } هذا في معنى التعليل للنهي المتقدم، والمعنى لا تقتلوا أولادكم من أجل حصول فقر، لأن رزقكم ورزقهم علينا لا غيرنا، وقال هنا: { مِّنْ إمْلاَقٍ }، وقال في الإسراء:
{ { خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } [الإسراء: 31]، لأن ما هنا في الفقر الحاصل بالفعل، وما في الإسراء في الفقر المتوقع، فهو خطاب للأغنياء، وقدم هنا خطاب الآباء، وهناك ضمير الأولاد قيل تفننا، وقيل قدم هنا خطاب الآباء تعجيلاً لبشارة الآباء الفقراء بأنهم في ضمان الله، وقدم هناك ضمير الأولاد، لتطمئن الآباء بضمان رزق الأولاد، فهذه الآية تفيد النهي للآباء عن قتل الأولاد، وإن كانوا متلبسين بالفقر، والأخرى عن قتلهم وإن كانوا موسرين، ولكن يخافون وقوع الفقر. قوله: { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَاحِشَ } هذا أعم مما قبله، لأن من جملة الفواحش قتل الأولاد. قوله: (أي علانيتها) أي كالقتل والزنا والسرقة وجميع المعاصي الظاهرية، وقوله: (وسرها) أي كالرياء والعجب والكبر والحسد وجميع المعاصي القلبية.
قوله: { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ } عطف خاص على عام، ونكتته الاستثناء بعدة. قوله: { ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ } مفعول حرم محذوف أي قتلها. قوله: { إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } في محل نصب على الحال، أو صفة لمصدر محذوف، والتقدير ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا ملتبسين بالحق، أو قتلاً ملتبساً بالحق، وهو استثناء مفرع، أي لا تقتلوها في حال من الأحوال، إلا في حال ملابستكم بالحق. قوله: (كالقود) أي القصاص، وقوله: (وحد الردة) أي لما في الحديث
"من بدل دينه فاقتلوه" . وقوله: (ورجم المحصن) أي بشروطه، وهو ما قبله المذكورة في الفروع.
قوله: { ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ } مبتدأ وخبر، وقوله: (المذكور) إشارة إلى أن اسم الإشارة عائد على ما تقدم من الأمور. قوله: { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ختم هذه الآية بذلك، لأنها اشتملت على خمسة أشياء عظام، والوصية فيها أبلغ منها في غيرها، لعموم نفعها في الدين والدنيا، فختمها بالعقل الذي هو مناط التكليف. قوله: (أي بالخصلة التي) { هِيَ أَحْسَنُ } أشار بذلك إلى أنه نعت لمصدر محذوف، والمعنى لا تقربوا مال اليتيم في حالة من الحالات، إلا في الحالة التي هي أحسن لليتيم.
قوله: { حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } غاية لما يفهم من النهي، كأنه قال: احفظوه إلى بلوغ أشده، فسلموه له حينئذ. قوله: (بأن يحتلم) هذا تفسير لبلوغ الأشد، باعتبار أول زمانهن وسيأتي في الأحقاف تفسيره باعتبار آخره وهو ثلاث وثلاثون سنة، لأن الأشد هو قوة الإنسان وشدته ومبدؤه البلوغ، وينتهي لثلاث وثلاثين سنة. قوله: { بِٱلْقِسْطِ } متعلق بمحذوف إما حال من فاعل: { أَوْفُواْ }، أو من مفعوله أي أوفوهما حال كونكم مقسطين، أو حال كونهما تامين. قوله: (وترك البخس) أي النقص في الكيل أو الوزن. قوله: (فلا مؤاخذة عليه) أي لا إثم، ولكنه يضمن ما أخطأ فيه، لأن العمد والخطأ في أموال الناس سواء.
قوله: { وَإِذَا قُلْتُمْ } المراد بالقول ما يعم الفعل، وقوله: { فَٱعْدِلُواْ } (بالصدق) أي لا تتركوه في القول ولا في الفعل، وإنما خص القول تنبيهاً بالأدنى على الأعلى. قوله: { وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ } إما مضاف لفاعله أي ما عهده إليكم، أو لمفعوله أي ما عاهدتم الله عليه. قوله: { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ختمها بذلك لأن هذه الأمور خفية غامضة، لا بد فيها من الاجتهاد والتذكر. قوله: (والسكون) صوابه والتخفيف، إذ لم يقرأ بسكون الذال، فمن شدد قلب التاء ذالاً وأدغمها في الأخرى، ومن خفف حذف إحدى التائين. قوله: (بالفتح) أي مع التشديد أو التخفيف، وقوله: (والكسر) أي مع التشديد لا غير، فالقراءات ثلاث وكلها سبعية. قوله: (على تقدير اللام) أي على كل من الوجهين، وحينئذ تكون الواو عاطفة من عطف العلة على المعلول، والتقدير كلفتم بهذا الذي وصاكم به من أول الربع إلى هنا، أو من أول السورة إلى هنا، لأن هذا صراطي. قوله: (استئنافاً) أي واقعاً في جواب سؤال مقدر، ومع ذلك فيها معنى التعليل، كأن قائلاً قال: لأي شيء كلفنا بما تقدم؟ فقيل في الجواب: أن هذا صراطي مستقيماً، ثم اعلم أنه على قراءة التشديد، فاسم الإشارة اسم أن وصراطي خبرها، وعلى قراءة التخفيف فاسمها ضمير الشأن، واسم الإشارة مبتدأ، وصراطي خبره، والجملة خبر إن، ومستقيماً حال من صراطي على كل حال.