التفاسير

< >
عرض

وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ
٩١
وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ
٩٢
-الأنعام

حاشية الصاوي

قوله: { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } استئناف مسوق لبيان أوصاف اليهود، وقدر من باب نصر، يقال قدر الشيء إذا سبره وحرزه ليعرف مقداره، والمعنى لم يعترفوا بقدر الله، وهذا الكلام إنما هو تنزل مع اليهود، وإلا فالخلائق لم يعظموا الله حق تعظيمه ولم يعرفوه حق معرفته. واعلم أن هنا معنيين: الأول أن معنى وما قدروا الله حق قدره، أي ما عرفوه المعرفة التي تليق به، وهذه لا يصل إليها أحداً أبداً، ففي الحديث: "سبحانك ما عرفناك حق معرفتك يا معروف لا أحصى ثنا عليك أنت كما أثنيت على نفسك" وهذا منتف في حق كل مخلوق، فلا خصوصية لليهود، الثاني أن معنى وما قدروا الله حق قدره، أنهم لم يعظموه ولم يعرفوه على حسب ما أمروا به، وهذا لم يقع من اليهود، وإنما هو واقع من المؤمنين وهذا هو المراد هنا.
قوله: { إِذْ قَالُواْ } إما ظرف لقدروا أو تعليل له. قوله: (وقد خاصموه في القرآن) أي كفنحاص ابن عازوراء ومالك بن الصيف،
"فقد جاء يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد فيها أن الله تعالى يبغض الحبر السمين أي العالم الجسيم، وكان مالك المذكور كذلك، وكان فيها ما ذكر، فقال نعم، وكان يجب إخفاء ذلك، لكن أقر لإقسام النبي عليه السلام، فقال له النبي أنت حبر سمين، فقال له النبي أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد فيها أن الله تعالى يبغض الحبر السمين أي العالم الجسيم، وكان مالك المذكور كذلك، وكان فيها ما ذكر، فقال نعم، وكان يجب إخفاء ذلك، لكن أقر لإقسام النبي عليه السلام، فقال له النبي أنت حبر سمين، فغضب وقال ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال أصحابه الذين معه ويحك ولا على موسى، فقال والله ما أنزل الله على بشر من شيء، فلما سمعت اليهود تلك المقالة غضبوا عليه وقالوا أليس الله أنزل التوراة على موسى فلم قلت هذا، قال أغضبني محمد فقلته، فقالوا وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق،" فعزلوه من الحبرية وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف.
قوله: { نُوراً } حال إما من به والعامل فيها جاء، أو من الكتاب والعامل فيه أنزل، ومعنى نوراً بيناً في نفسه، وهدى مبيناً لغيره، وللناس متعلق بهدى. قوله: { تَجْعَلُونَهُ } حال ثانية، وجعل بمعنى صير، فالهاء مفعول أول، وقراطيس مفعول ثان على حذف مضاف، أي ذا قراطيس أو في قراطيس أو بولغ فيه. قوله: (بالياء والتاء) فعلى التاء يكون خطاباً لليهود، وعلى الياء التفاف من الخطاب للغيبة. قوله: (في المواضع الثلاثة) أي يجعلون ويبدون ويخفون. قوله: (مقطعة) أي مفصولاً بعضها من بعض، ليتمكنوا من إخفاء ما أرادوا إخفاءه. قوله: { وَتُخْفُونَ كَثِيراً } أي لم يظهروه، بمعنى لم يكتبوه أصلاً أو كتبوه وأخفوه على ملوكهم وسفلتهم، وجعلوا ذلك سراً بينهم. قوله: (كنعت محمد) أي وكآية الرجم، وآية إن الله يبغض الحبر السمين.
قوله: { وَعُلِّمْتُمْ } يحتمل أن الخطاب لليهود كما قال المفسر، وتكون الجملة حالية، والمعنى تبدونها وتخفون كثيراً. والحال أن محمداً أعلمكم في القرآن بأشياء من التوراة، ما لم تكونوا تعلمونها أنتم ولا آباؤكم، ويحتمل أن الخطاب لقريش، وتكون الجملة مستأنفة معترضة بين السؤال والجواب. قوله: { قُلِ ٱللَّهُ } يحتمل أنه مبتدأ خبره محذوف تقديره أنزله، وعليه درج المفسر وهو الأولى، لأن السؤال جملة اسمية، فيكون الجواب كذلك، ويحتمل أنه فاعل يفعل محذوف تقديره أنزله الله، وقد صرح بالفعل في قوله تعالى:
{ { لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ } [الزخرف: 9]. قوله: { فِي خَوْضِهِمْ } إما متعلق بذرهم أو بيلعبون، ومعنى يلعبون يستهزؤون ويسخرون.
قوله: { وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ } مبتدأ وخبر، و { أَنزَلْنَٰهُ } صفة أولى، و { مُبَارَكٌ } صفة ثانية، و { مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } صفة ثالثة. قوله: (القرآن) لغة من القرء وهو الجمع، واصطلاحاً اللفظ المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم للإعجاز بأقصر سورة منه المتعبد بتلاوته، وهذا رد عليهم حيث قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء. قوله: { مُبَارَكٌ } أي كله خير لمن آمن به، وشر على من كفر به، ومن بركته بقاء الدنيا، وإنبات الأرض، وإمطار السماء، ولذا إذا رفع القرآن تأتي ريح لينة فيموت بها كل مؤمن ويبقى الكفار، فبقاء الخير في الأرض مدة بقاء القرآن فيها.
قوله: { مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } أي موافق للكتب التي قبله في التوحيد والتنزيه، والمعنى أنه دال على صدقها وأنها من عند الله. قوله: (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان، فعلى التاء يكون خطاباً للنبي، وعلى الياء يكون الضمير عائد على القرآن. قوله: (أي أنزلناه للبركة) هذه العلة مأخوذة من الوصف بالمشتق، لأن تعليق الحكم به يؤذن بالعلية. قوله: (أي أهل مكة) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف، أي أهل أم القرى وهي مكة. قوله: (وسائر الناس) أشار بذلك إلى أنه ليس المراد بمن حولها ما قال ربها من البلاد، بل المراد جميع البلاد، لأن مكة وسط الدنيا، واقتصر على الانذار لأنه هو الموجود في صدر الإسلام، إذ ليس ثم مؤمن يبشر.
قوله: { وَٱلَّذِينَ } مبتدأ، و { يُؤْمِنُونَ } صلته، و { بِٱلأَخِرَةِ } متعلق بيؤمنون، وقوله: { يُؤْمِنُونَ بِهِ } خبره، ولم يتحد المبتدأ والخبر لتغاير متعلقيهما، والمعنى والذين يؤمنون بالآخرة إيماناً معتداً به، محصورون في الذين يؤمن بالقرآن، فخرجت اليهود فلا يعتد بإيمانهم بالآخرة لعدم إيمانهم بالقرآن وقوله: { وَهُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } جملة حالية من فاعل يؤمنون، وخص الصلاة بالذكر لأنها أشرف العبادات. قوله: (خوفاً من عقابها) أي الآخرة.