التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ
١٧٢
أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ
١٧٣
وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
١٧٤
-الأعراف

حاشية الصاوي

قوله: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ } عطف على قوله: { وَإِذ نَتَقْنَا } عطف قصة على قصة، وقدر المفسر اذكر إشارة إلى أن إذ ظرف معمول لمحذوف، والحكمة في تخصيص بني إسرائيل بهذه القصة، الزيادة في إقامة الحجة عليهم، حيث أعلمهم الله بأن أعلم نبيه بمبدأ العالم، فضلاً عن وقائعهم. قوله: (بدل اشتمال) أي من قوله: { بَنِيۤ ءَادَمَ } والأوضح أنه بدل بعض من كل، لأن الظهور بعض بني آدم كضبت زيداً يده. قوله: (بأن أخرج بعضهم من صلب بعض) أي فأخرج أولاده آدم لصلبه من ظهره، ثم أخرج من ظهر أولاده لصلبه أولادهم، وهكذا على حسب الظهور الجسماني إلى يوم القيامة، وميز المسلم من الكافر، بأن جعل ذر المسلم أبيض، وذر الكافر أسود. روي أنهم لما اجتمعوا قال لهم: اعلموا أنه لا إله غيري، وأنا ربكم لا رب لكم غيري، فلا تشركوا بي شيئاً، فإني سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن، وإني مرسل إليكم رسللاً يذكرونكم عهدي وميثاقي، ومنزل عليكم كتاباً، فتكلموا جميعاً وقالوا: شهدنا أنك ربنا لا رب لنا غيرك، فأخذ بذلك مواثيقهم، ثم كتب الله آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم، فنظر إليهم آدم عليه السلام، فرأى الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: رب هلا سويت بينهم؟ فقال: أني أحب أن أشكر، فلما قررهم بتوحيده، وأشهد بعضهم على بعض، أعادهم إلى صلبه، فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ منه الميثاق. قوله: (كالذر) قيل هو صغار النمار، وقيل هو الهباء الذي يطير في الشمس، وقيل غير ذلك. قوله: (بنعمان) مكان يجنب عرفة. قوله: (وركب فيهم عقلاً) أي وسمعاً وروحاً.
قوله: { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } أي قررهم، فإن الشهادة على النفس معناها الإقرار. قوله: { بَلَىٰ } هي جواب للنفي، ولكنها تفيد إثباته، كان مجرداً أو مقروناً بالاستفهام التقريري كما هنا، ولذا قال عباس: لو قالوا نعم لكفروا، لأن نعم لتقرير ما قبلها مثبتاً أو منفياً، فكأنهم أقروا بأنه ليس بربهم، وإلى ذلك أشار العارف الأجهوري رضي الله عنه بقوله:

بل جواب النفي لكنه يصير إثباتاً كذا قرروا
نعم لتقرير الذي قبلها إثباتاً أو نفياً كذا حرروا

قوله: { شَهِدْنَآ } يحتمل أن يكون من كلام الملائكة الذين استشهدهم الله على ذلك، فيكون الوقف على قول: { بَلَىٰ }، ويحتمل أن يكون من كلام الذرية، ويكون المعنى أقررنا بذلك، وحينئذ فلا يصح الوقف على { بَلَىٰ }. قوله: (في الموضعين) أي قوله: { أَن تَقُولُواْ }، { أَوْ تَقُولُوۤاْ } والمناسب تأخير قوله: (في الموضعين) فعلى الياء يكون إخباراً عنهم، وعلى التاء يكون خطاباً لهم. قوله: (فاقتدينا بهم) أي فهم مؤاخذون بذلك ونحن معذورون. قوله: (المعنى لا يمكنهم) أي معنى الجملتين. قوله: (مع إشهادهم على أنفسهم) أي إقرارهم عليها. قوله: (على لسان صاحب المعجزة) أي وهم المرسلون وهو جواب عما يقال إن هذا العهد لا يذكره أحد اليوم.
قوله: { وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عطف على قدره المفسر.
-فائدة حسنة- ذكر القطب الشعراني في رسالة سماها القواعد الكشفية في الصفات الإلهية: قد ذكر العلماء في قوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } الآية: اثني عشر سؤالاً، ونحن نوردها عليك مع الجواب عنها بما فتح الله به، الأول: أين موضع أخذ الله تعالى هذا العهد؟ والجواب: أن الله أخذ ذلك عليهم ببطن نعمان، وهو واد بجنب عرفة، قال ابن عباس وغيره، وقال بعضهم: أخذه بسرنديب من أرض الهند، وهو الموضع الذي هبط آدم فيه من الجنة، وقال الكلبي: كان أخذ العهد بين مكة والطائف، وقال الإمام علي بن أبي طالب: كان أخذ العهد في الجنة، وكل هذه الأمور محتملة، ولا يضرنا الجهل بالمكان بعد صحة الاعتقاد بأخذ العهد. الثاني: كيف استخرجتم من ظهره؟ والجواب: ورد في الصحيح أنه تعالى مسح ظهر آدم، وأخرج ذريته منه كلهم كهيئة الذر، ثم اختلف الناس، هل شق ظهره واستخرجهم منه؟ أو استخرجهم من بعض ثقوب رأسه، وكلا الوجهين بعيد، والأقرب كما قيل، انه استخرجهم من مسام شعر ظهره، إذ تحت كل شعرة ثقبة دقيقة يقال لها سم، مثل سم الخياط في النفوذ لا في السعة، فتخرج الذرة الضعيفة منها، كما يخرج الصئبان من العرق السائل، وهذا غير بعيد في العقل، فيجب اعتقاد إخراجها من ظهر آدم كما شاء الله، ولا يجوز اعتقاد أنه تعالى مسح ظهر آدم على وجه المماسة، إذ لا اتصال بين الحادث والقديم. الثالث: كيف أجابوه تعالى: بلى، هل كانوا أحياء عقلاء، أم أجابوه بلسان الحال؟ والجواب أنهم أجابوه بالنطق وهم أحياء عقلاء، إذ لا يستحيل في العقل، أن الله يعطيهم الحياة والعقل والنطق مع مع صغرهم، فإن بحار قدرته تعالى واسعة، وغاية وسعنا في كل مسألة أن تثبت الجواز، ونكل علم كيفيتها إلى الله تعالى. الرابع: فإذا قال الجميع بلى، فلم قبل قوماً ورد آخرين؟ والجواب كما قال الحكيم الترمذي: أن الله تعالى تجلى للكفار بالهيبة فقالوا: بل: مخافة، فلم يكن ينفعهم إيمانهم، فكان إيمانهم كإيمان المنافقين، وتجلى للمؤمنين بالرحمة، فقالوا: بلى، مخافة، فلم يكن ينفعهم إيمانهم، فكان إيمانهم كإيمان المنافقين، وتجلى للمؤمنين بالرحمة، فقالوا: بلى، مطيعين مختارين، فنفعهم إيمانهم. الخامس: إذا سبق لنا عهد وميثاق مثل هذا، فلأي شيء لا نذكره اليوم؟ والجواب: أنا لم نتذكر هذا العهد، لأن تلك البنية قد انقضت وتغيرت أحوالها، بمرور الزمان عليها في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، ثم استحال تصويرها في الأطوار الواردة عليها، من العلقة والمضغة واللحم والعظم، وهذا كله ما يوجب النسيان، وكان علي كرم الله وجهه يقول: إني لأذكر العهد الذي عهد إلي ربي. وكان سهل التستري يقول: إني لأعرف تلامذتي من ذلك اليوم، ولم أزل أربيهم في الأصلاب حتى وصلوا إلي، السادس: هل كانت تلك الذرات مصورة بصورة الإنسان أم لا؟ والجواب: لم يبلغا في ذلك دليل، إلا أن الأقرب للعقول، عدم الاحتياج إلى كونها بصورة الإنسان، إذ السمع والنطق لا يفترقان إلى الصورة، بل يقتضيان محلاً حياً لا غير. السابع: متى تعلقت الأرواح بالذوات التي هي الذرية، هل قبل خروجها من ظهره، أم بعد خروجها منه؟ والجواب: قال بعضهم إن الظاهر أنه تعالى استخرجهم أحياء، لأن سماهم ذرية، والذرية هو الأحياء لقوله تعالى:
{ { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } [يس: 41]. فيحتمل أن الله تعالى أدخل فيهم الأرواح وهم في ظلمات بطون الأرض، هكذا جرت سنة الله فسمى ذلك خلقاً. الثامن: ما الحكمة في أخذ الميثاق منهم؟ والجواب: أن الحكمة في ذلك، إقامة الحجة على من لم يوف بذلك. التاسع: هل أعادهم إلى ظهر آدم أحياء، أم استرد أرواحهم ثم أعاده إليه أمواتاً؟ والجواب أن الظاهر أنه لما ردهم إلى ظهره، قبض أرواحهم، قياساً على ما يفعله بهم إذا ردهم إلى الأرض بعد الموت، فإنه يقبض أرواحهم ويعيدهم فيها. العاشر: أين رجعتم الأرواح بعد رد الذرات إلى ظهره؟ والجواب: أن هذه مسألة غامضة، لا يتطرق إليها النظر العقلي عندي بأكثر من أن يقال: رجعت لما كانت عليه قبل حلولها في الذوات، فمن رأى في ذلك شيئاً فليلحقه بهذا الموضع. الحادي عشر: قوله: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ }، والناس يقولون: إن الذرية أخذت من ظهر آدم؟ والجواب: أنه تعالى أخرج من ظهر آدم بنيه لصلبه ثم أخرج بني بنيه من ظهور بنيه، فاستغنى عن ذكر إخراج بني آدم من آدم بقوله من بني آدم، إذ من المعلوم أن بني بنيه لا يخرجون إلا من بنيه، ومثال ذلك: من أودع جوهرة في صدفة، ثم أودع الصدفة في خرقة، ثم أودع الخرقة مع الجوهرة في حقه، ثم أودع الحقة في درج، ثم أودع الدرج في صندوق، فأخرج منه تلك الأشياء بعضها من بعض، ثم أخرج الجميع من الصندوق، فهذا لا تناقض فيه. الثاني عشر: في أي مكان أودع كتاب العهد والميثاق؟ والجواب: قد جاء في الحديث، أنه مودع في باطن الحجر الأسود، وأن للحجر الأسود عينين وفماً ولساناً، فإن قال قائل: هذا غير متصور في العقل، فالجواب: أن كل ما عسر على العقل تصوره يكفينا فيه الإيمان به، ورد معناه إلى الله تعالى ا هـ ملخصاً.