التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوۤءُ أَعْمَالِهِمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ
٣٧
-التوبة

حاشية الصاوي

قوله: { إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ } فعيل بمعنى مفعول، والمراد به تأخيرهم حرمة المحرم إلى صفر، كما في المختار، وهذه قراءة الجمهور بهمزة بعد الياء، وفي قراءة سبعية بإبدال الهمزة ياء، أو إدغام الياء فيها، وقرىء شذوذاً، بسكون السين وبفتح النون وبضم السين بوزن فعول. قوله: (كما كانت الجاهلية تفعله) أي لأن الجاهلية كانت تعتقد حرمة الأشهر الحرام وتعظيمها، وكانت معاشهم من الغزو، وكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية، فأخروا تحريم شهر إلى شهر آخر، فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر، فإذا احتاجوا إلى القتال، أخروا التحريم إلى ربيع الأول، وهكذا، حتى استدار التحريم على السنة كلها، وكانوا يحجون في كل شهر شهر عامين، فحجوا في ذي الحجة عامين، والمحرم كذلك، وهكذا باقي الشهور، فوافقت حجة أبي بكر في السنة التاسعة ذا القعدة، ثم "حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فوافقت شهر الحج المشروع، وهو ذو الحجة، فوقف بعرفة في اليوم التاسع، وخطب الناس في اليوم العاشر بمنى حيث قال: إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر، الذين بين جمادى وشعبان، أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى، قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: أليست البلدة؟ قلنا: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، قال: فإن دماؤكم وأموالكم - قال محمد وأحسبه قال: وأعراضكم - عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم بعضاً، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه، ثم قال: ألا هل بلغت" ؟ مرتبن. قوله: (إذا هل) بالبناء للفاعل وللمفعول، ويقال استهل وهل: إذا رفع الصوت عند ذكره، وبذلك سمي الهلال. قوله: (بضم الياء) أي مع فتح الضاد مبنياً للمفعول في السبعة، ومع كسر الضاد مبنياً للفاعل في العشرة. قوله: (وفتحها) أي مع كسر الضاد لا غير، وهي سبعية أيضاً، فتكون القراءات ثلاثاً: واحدة عشرية، واثنتان سبعيتان. قوله: (أي النسيء) المراد به هنا اسم المفعول أي المنسوء أي المؤخر، وهو تحريم بعض الشهور.
قوله: { يُحِلُّونَهُ عَاماً } فيه وجهان: أحدهما: أن الجملة تفسيرية للضلال، الثاني: أنها حالية. قوله: { لِّيُوَاطِئُواْ } تنازعه كل من يحلونه ويحرمونه، فيجوز الثاني أو الأول. قوله: (إلى أعيانها) أي الأربعة التي اشتهر تحريمها، لأنهم لو التزموا أعيانه لم يضلوا. قوله: { زُيِّنَ لَهُمْ سُوۤءُ أَعْمَالِهِمْ } بالبناء للمفعول والمزين لهم الشيطان. قوله: أي لا يوصلهم للسعادة. قوله: (ونزل لما دعا) إلخ أي من هنا إلى قوله: { لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } أي لا يوصلهم للسعادة. قوله: (ونزل لما دعا) إلخ من هنا إلى قوله:
{ { إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ } [التوبة: 60] فهذه الآيات متعلقة بغزوة تبوك والمتخلفين عنها من المنافقين وغيرهم. قوله: (إلى غزوة تبوك) بالصرف على إرادة البقعة، ومنع للعلمية والتأنيث، وكانت في السنة التاسعة من الهجرة بعد رجوعه من الطائف، وسبب توجهه لها أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هرقل جمع أهل الروم وأهل الشام، وأنهم قدموا مقدماتهم إلى البلقاء، وكان صلى الله عليه وسلم قليلاً ما يخرج في غزوة إلا ورى عنها بغيرها، إلا ما كان من غزوة تبوك، وذلك لبعد المسافة، لأنها على طرف الشام، بينها وبين المدينة أربع عشرة مرحلة، فأمرهم بالجهاد، وبعث إلى مكة وقبائل العرب، وهي آخر غزاوته صلى الله عليه وسلم، وأنفق عثمان نفقة عظيمة، فجهز عشرة آلاف، وأنفق عليها عشرة آلاف دينار، غير تسعمائة بعير ومائة فرس وما يتعلق بذلك، وجاء أبو بكر بجميع ماله أربعة آلاف درهم، وجاء عمر بنصف ماله، وجاء ابن عوف بمائة أوقية، وجاء العباس بمال كثير، وكذا طلحة، وبعثت النساء بكل ما يقدرون عليه من حليهن، فلما تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، وهم ثلاثون الفاً، وقيل أربعون الفاً، وقيل سبعون الفاً، وكانت الخيل عشرة آلاف فرس، وخلف على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري، وقيل علي بن أبي طالب، وتخلف عبد الله بن أبيّ ومن كان معه من المنافقين، فبعد أن خرج بهم إلى ثنية الوداع متوجهاً إلى تبوك، عقد الألوية والرايات، فدفع لواءه الأعظم إلى أبي بكر، ورايته العظمى للزبير، وراية الأوس لأسيد بن حضير، وراية الخظزرج للحباب بن المنذر، ودفع لكل بطن من الأنصار، ومن قبائل العرب، لواء وراية، ولما نزلوا تبوك، وجدوا عينها قليلة الماء، فاغترف رسول الله صلى الله عليه وسلم غرفة من مائها، فمضمض بها فاه ثم بصقه فيها، ففارت عينها حتى امتلأت وارتووا هم وخيلهم وركابهم، وأقام بتبوك بضع عشرة ليلة، وقيل عشرين ليلة، فأتاه يحنة - بضم التحتية وفتح الحاء المهملة والنون المشددة ثم تاء التأنيث - ابن رؤية - بضم الراء فهمزة ساكنة فموحدة - صاحب أيلة، وأهدى له بغلة بيضاء، فكساه النبي رداء وصالحه على إعطاء الجزية، بعد أن عرض عليه الإسلام فلم يسلم وكتب له ولأهل أيلة كتاباً تركه عندهم ليعلموا، وقد استشار صلى الله عليه وسلم أصحابه في مجاوزة تبوك، فأشاروا عليه بعدم مجاوزتها، فانصرف وهو والمسلمون راجعين إلى المدينة، ولما دنا من المدينة، تلقاه المتخلفون، فقال لأصحابه: لا تكلموا رجلاً منهم، ولا تجالسوهم، حتى آذن لكم، فصار الرجل بعرض عن أبيه وأخيه. قوله: (وكانوا في عسرة) أي قحط وضيق عيش، حتى أن الرجلين ليجتمعان على التمرة الواحدة. قوله: (وشدة حر) أي حتى كانوا يشربون الفرث. قوله: (فشق عليهم) أي فتخلف عنهم عشرة قبائل، ويقال لها غزوة العسرة الفاضحة، لأنها اظهرت حال المنافقين.