التفاسير

< >
عرض

إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ
١٢
وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَٱلأُولَىٰ
١٣
فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ
١٤
لاَ يَصْلَٰهَآ إِلاَّ ٱلأَشْقَى
١٥
ٱلَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
١٦
وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى
١٧
ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ
١٨
وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ
١٩
إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ
٢٠
وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ
٢١
-الليل

حاشية الصاوي

قوله: { إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ } أي بمقتضى حكمتنا وتعلق قدرتنا، وإلا فلا يجب على الله تعالى شيء. قوله: (لتبين طريق الهدى) الخ، دفع بذلك ما يقال: إن في الآية اكتفاء، والتقدير: إن علينا للهدى والضلال أي تبيين كل منهما، وإيضاح جواب المفسر، أن المراد بالهدى التبيين ومعموله محذوف، والتقدير: إن علينا لتبيين طريق الحق من طريق الباطل. قوله: (فمن طلبهما من غيرنا فقد أخطأ) أي فهذه الآية بمعنى قوله تعالى: { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } [النساء: 134]. قوله: { تَلَظَّىٰ } مرفوع بضمة مقدرة على الألف للتعذر صفة لناراً. قوله: (وقرئ) أي شذوذاً. قوله: { لاَ يَصْلَٰهَآ } مضارع صلى بكسر اللام، والمصدر صلياً بضم فكسر مع تشديد الياء. قوله: (وهذا الحصر مؤول) أي مصروف عن ظاهره، وقصد المفسر بهذا الكلام، الرد على المرجئة القائلين: لا يضر مع الإيمان ذنب، مستدلين بظاهر هذه الآية، حيث حصر دخول النار في الكفار، فمقتضاها: أن المؤمن لا يدخلها ولو فعل الكبائر، ووجه الرد: أن الآية محمولة على الدخول المؤيد، فلا ينافي أن عصاة المؤمنين يدخلونها، ثم يخرجون منها بالشفاعة. إذا علمت ذلك تعلم أن كلام المفسر لا يلاقي كل المرجئة، فكان عليه أن يقول: مؤول بحمل الصلي على التأبيد والخلود، وأما قوله: (لقوله تعالى: { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء: 48]) فلا مدخل له في رد كلام المرجئة إلا أن يقال له مدخل من حيث مفهومه، إذا مفهوم (لمن يشاء) أن من لم يشأ الغفران له لم يغفر له، بل يدخله النار.
قوله: { يَتَزَكَّىٰ } بدل من يؤتى أو حال من فاعله، ومشى المفسر على الثاني حيث قال (متزكياً). قوله: (وهذا نزل في الصديق) الإشارة لقوله: { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى * ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ }. قوله: (لما اشترى بلالاً) أي من سيده وهو أمية بن خلف، وكان الصديق رضي الله عنه يبتاع الضعفة فيعتقهم، فقال له أبوه: أي بني لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك، فقال: منع ظهري أريد، فنزلت الآية، ورد أنه كان بلال لبعض بني جمح، وهو بلال بن رباح، واسم أمه حمامة، وكان صادق الإسلام ظاهر القلب، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الشمس، فيطرحه على ظهره ببطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، فيقول وهو في ذلك: أحد أحد، فمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أحد ينجيك، يعني الله تعالى، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: إن بلالاً يعذب في الله، فعرف أبو بكر الذي يريده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرف إلى منزله فأخذ رطلاً من ذهب ومضى إلى أمية بن خلف فقال: ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ قال: أنت أفسدته فأنقذه بما ترى، ففي رواية أنه فداه برطل من ذهب، وفي رواية أنه قال له عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى، وهو على دينك، فأعطاه له وأخذ بلالاً فأعتقه. وقال سعيد بن المسيب: بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر في بلال حين قال له أتبيعه؟ قال: نعم أبيعه بنسطاس، عبد لأبي بكر، وكان نسطاس صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش، وكان مشركاً، حمله أبو بكر على الإسلام على أن يكون ماله له: فأبى فأبغضه أبو بكر، فلما قال أمية: أبيعك بغلامك نسطاس، اعتنمه أبو بكر وباعه به، وكان قد أعتق قبله ست رقاب وهم: عامر بن فهيرة شهد بدراً واحداً وقتل يوم بئر معونة شهيداً. وأعتق أم عميس وزهرة فأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كذبوا وبيت الله، ما تضر اللات والعزى وما ينفعان، فردَّ الله تعالى عليها بصرها وأعتق الفهرية وابنتها وكانتا لامرأة لبني عبد الدار، فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما يحتطبان لها وهي تقول لهما: والله لا أعتقكما أبداً فقال أبو بكر: كلا يا أم فلان، فقال: كلا أنت أفسدتهما فأعتقهما، قال: فبكم؟ قالت: بكذا وكذا، قال: قد أخذتهما وهما حرتان. ومر بجارية من بني المرسل وهي تعذب، فابتاعها فأعتقها، وفي ذلك يقول عمار بن ياسر:

جزى الله خيراً عن بلال وصحبه عتيقاً وأخزى فاكهاً وأبا جهل
عشية هما في بلال بسوءة ولم يحذرا ما يحذر المرء ذو العقل
بتوحيده رب الأنام وقوله شهدت بأن الله ربي على مهل
فإن تقتلوني تقتلوني ولم أكن لأشرك بالرحمن من خيفة القتل
فيا رب ابراهيم والعبد يونس وموسى وعيسى نجني ثم لا تمل
لمن ظل يهوى الغي من آل غالب على غير حق كان منه ولا عدل

قوله: (فقال الكفار) الخ، المناسب أن يقول: ولما قال الكفار: (إنما فعل ذلك) الخ، نزل قوله تعالى: { وَمَا لأَحَدٍ } الخ. قوله: (أنما فعل) أي أبو بكر، وقوله: (ذلك) أي شراء بلال وإعتاقه، وقوله: (ليد كانت له) أي نعمة كانت لبلال عند أبي بكر، بأن صنع مع أبي بكر معروفاً فأحب أبو بكر مكافأته بما فعله معه، وقوله: (فنزل) أي تكذيباً للكفار. قوله: { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ } أي عند أبي بكر، لا من بلال ولا غيره. قوله: { تُجْزَىٰ } صفة لـ { نِّعْمَةٍ } أي يجزى الإنسان بها، وأتى به مضارعاً مبنياً للمفعول رعاية للفواصل. قوله: (لكن فعل ذلك) الخ، أشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع، لأن ابتغاء وجه ربه، ليس من جنس النعمة، وهو منصوب على أنه مفعول لأجله. قوله: { وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ } جواب قسم مقدر، أي والله لسوف يرضى، وهو وعد من الكريم تعالى لأبي بكر، بنيل جميع ما يتمناه على أبلغ وجه وأجمله، والعامة على بناء { يَرْضَىٰ } للفاعل، وقرئ شذوذاً ببنائه للمفعول، أي يرضيه الله، أي يطيعه الله، أي يعطيه حتى يرضى.
>