التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىٰ
٦
وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ
٧
وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَىٰ
٨
فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ
٩
وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ
١٠
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ
١١
-الضحى

حاشية الصاوي

قوله: { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً } الخ، القصد من هذا تسليته صلى الله عليه وسلم ليزداد شكراً وصبراً، والوجود بمعنى العلم فـ { يَتِيماً } مفعول ثان، والكاف مفعوله الأول، قوله: (استفهام تقريري) أي بما بعد النفي. قوله: (يفقد أبيك) مصدر مضاف لمفعوله. قوله: (قبل ولادتك) أي بعد حمله بشهرين، وقيل قبل ولادته بشهرين، وقوله: (أو بعدها) أي وعليه فقيل بشهرين، وقيل بسبعة، وقيل بتسعة أشهر، وقيل بثمانية وعشرين شهراً، والصحيح الأول، وكانت وفاته بالمدينة الشريفة، ودفن في دار التبابعة، وقيل دفن بالإبواء قرية من أعمال الفرع، وتوفيت أمه وهو ابن أربع سنوات، وقيل خمس، وقيل ست، وقيل سبع، وقيل ثمان، وقيل تسع، وقيل ثنتي عشرة سنة وشهر وعشرة آيام، وكانت وفاتها بالأبواء، وقيل بالحجون، ومات جده عبد المطلب وهو بان ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب، لأنه كان شقيق أبيه، وورد أنه لما مات أبواه قالت الملائكة: بقي نبيك يتمياً، فقال الله تعالى: أنا له كافل، وسئل بعض العلماء: لم يتم صلى الله عليه وسلم فقال: لئلا يكون لمخلوق عليه منه، فيتمه صلى الله عليه وسلم كمال، ولذا قال البوصيري:

كفاك بالعمل في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم

قوله: { فَآوَىٰ } العامة على قراءته بألف بعد الهمزة رباعياً، من آواه يؤويه، وأصله أأوى بهمزتين: الأولى مفتوحة، والثانية ساكنة، أبدلت الثانية ألفاً، ومصدره الإيواء كالإكرام، وهو متعد باتفاق، وقرئ شذوذاً بغير ألف ثلاثياً كرمى، ومصدره إيواء بوزن كتاب، وأوى بوزن فعول بالضم، وأوى بوزن ضرب، وهو يستعمل لازماً ومتعدياً. قوله: (بأن ضمك إلى عمك أبي طالب) أي بعد وفاة جدك عبد المطلب، وقيل هو من قولهم درة يتمية؛ والمعنى: ألم يجدك واحداً من قريش عديم النظير، فآواك إليه، وشرفك بنبوته، واصطفاك برسالته.
قوله: { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ } (عما أنت عليه الآن من الشريعة) أي وجدك خالياً من الشريعة، فهاك بإنزالها إليك، والمراد بضلاله كونه من غير شريعة، وليس المراد به الانحراف عن الحق، لكونه مستحيلاً عليه قبل النبوة وبعدها، فكذا كقوله تعالى:
{ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ } [الشورى: 52] وما ذكره المفسر أحد أقوال في تفسير الآية، وقيل الضلالة بمعنى الغفلة، قال تعالى: { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَافِلِينَ } [يوسف: 3] وهو قريب من الأول، وقيل وجدك ضالاً، أي في قوم ضلال، فهداهم الله تعالى بك، وقيل وجدك ضالاً عن الهجرة فهداك إليها، وقيل ناسياً شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فذكرك، وقيل وجدك طالباً للقبلة فهداك إليها، قال تعالى: { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ } [البقرة: 144] الآية، فيكون الضلال بمعنى الطلب والحب، قال تعالى: { إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ ٱلْقَدِيمِ } [يوسف: 95] أي محبتك، وقيل إن حليمة لما ضت حق الرضاع، جاءت برسول الله صلى الله عليه وسلم لتردع على عبد المطلب، فسمعت عند باب مكة: هنيئاً لك يا بطحاء مكة، اليوم يرد الله إليك النور والبهاء والجمال، قالت: فوضعته لأصلح شأني، فسمعت هدة شديدة، فالتفت فلم أره، فقلت: يا معشر الناس أين الصبي؟ فقالوا: لم نر شيئاً، فحصت: وامحمداه، فإذا شيخ فإن يتوكأ على عصاه فقال: اذهبي إلى الصنم الأعظم، فإن شاء أن يرده إليك فعل، ثم طاف الشيخ بالصنم وقيل رأسه وقال: يا رب لما تزل منتك على قريش، وهذه السعدية كما تزعم أن ابنها قد ضل، فرده إن شئت، فانكب على وجهه، وتساقطت الأصنام وقالت: إليك عنا أيها الشيخ، فهلاكنا على يد محمد، فألقى الشيخ عصاه وارتعد وقال: إن لابنك رباً لا يضيعه فاطلبيه على مهل، فانحشرت قريش إلى عبد المطلب وطلبوه في جميع مكة فلم يجدوه، فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعاً، وتضرع إلى الله تعالى أن يرده، فسمعوا منادياً ينادي من السماء: معاشر الناس لا تضجوا، فإن لمحمد رباً لا يخذله ولا يضيعه، وإن محمداً بوادي ثمامة عند شجرة السمر، فسار عبد المطلب هو وورقة بن نوفل، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يلعب بالأغصان وبالورق، وفي رواية: ما زال عبد الملطب يردد البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة ومحمد صلى الله عليه وسلم بين يديه وهو يقول: ألا تدري ماذا جرى من ابنك؟ فقال عبد المطلب: ولم؟ فقال: إن أنخت الناقة وأركبته خلفي، فأبت الناقة أن تقوم، فلما أركبته أمامي قامت الناقة. قال ابن عباس: رده الله تعالى إلى جده بيد عدوه، كما فعل بموسى عليه السلام، حين حفظه فرعون، وقيل: أنه عليه السلام، مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة عند خديجة، فبينما هو راكب ذت ليلة مظلمة ناقة، فجاء إبليس فأخذ بزمام الناقة فعدل بها عن الطريق، فجاء جبريل عليه السلام، فنفخ إبليس نفخة وقع منها ألى أرض الحبشة ورده إلى القافلة.
قوله: { عَآئِلاً } هذه قراءة العامة، يقال: عال زيد أي افتقر، وأعال كثرت عياله، وقرئ شذوذاً عيلاً بكسر الياء المشددة. قوله: (بما قنعك به) أي بما رضاك به وقوله: (من الغنيمة) أي وإن كانت لم تحصل إلا بعد نزول هذه السورة، لكن لما كان الجهاد معلوم الوقوع كان كالواقع، وقيل: أغناك بمال خديجة وتربية أبي طالب، ولما اختل ذلك أغناه بمال أبي بكر، ولما اختل ذلك أمره بالجهاد وأغناه بالغنائم، لما روي: جعل رزقي تحت ظل سيفي ورمحي. قوله: (وغيرها) أي كمال خديجة، ومال أبي بكر، وبإعانة الأنصار حين الهجرة. قوله: (عن كثرة العرض) بفتحتين المال، وفي الحديث:
"قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما أتاه"
؟ قوله: { فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ } منصوب بـ { تَقْهَرْ } وهذا مفرع على قوله: { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىٰ } فالمعنى: أصنع مع عبادي كما صنعت معك. قوله: (بأخذ ماله) أي كما كانت العرب تفعل في أموال اليتامى، تأخذ أموالهم وتظلمهم حقوقهم. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "خير بيت في المسلمين، بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه" ثم قال بأصبعيه: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا" وهو يشير بأصبعيه. قوله:(أو غير ذلك) أي كإذلاله واحتقاره.
قوله: { وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ } منصوب: بـ { تَنْهَرْ } والمعنى: إما أن تطعمه أو ترده برفق، وقيل: المراد بالسائل ما يشمل طالب العلم، فيكرمه وينصفه ولا يعبس في وجهه، ولا يتلقاه بمكروه، وهذا العموم أولى، وهو مفرع على قوله: { وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَىٰ } والمعنى أغن عبادي وأعطهم، كما أغنيتك وأعطيتك. قوله: { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } الخ، هذا عام، وإنما أخر حق الله تعالى عن حق اليتيم والسائل لأنهما محتاجان، والله هو الغني، وتقديم المحتاج أولى، ولأن المقصود من جميع الطاعات استغراق القلب في ذكر الله تعالى وشكره، فختمت به للعموم.
قوله: { فَحَدِّثْ } أي بالنعمة، لأن التحدث بها هو شكرها، والتحدث بالنعمة جائز لغيره صلى الله عليه وسلم إذا قصد به الشكر، وأن يقتدي به غيره، وأمن على نفسه الغرور والكبر، قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: إذا عملت خيراً فحدث به اخوانك ليقتدوا بك. وورد أن شخصاً كان جالساً عنده صلى الله عليه وسلم فرآه رث الثياب فقال له: ألك مال؟ قال: نعم، فقال له:
"إذا آتاك الله مالاً فلير أثره عليك" وورد: "إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده" ، وقوله: (بالنبوة وغيرها)، أي من العلوم والقرآن وسائر عطاياه التي لا تتناهى، وقد فعل صلى الله عليه وسلم فحدث بما أعطاه ربه من النعم، فبلغ القرآن، ونشر العلوم، وأعطى حقوق ربه عز وجل. قوله: (في بعض الأفعال) أي وهو { فَآوَىٰ } { فَهَدَىٰ } { فَأَغْنَىٰ } والأصل: فأواك، فهداك، فأغناك.