التفاسير

< >
عرض

إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ
١
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ
٢
لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ
٣
-القدر

حاشية الصاوي

قوله: { إِنَّا } يؤتى بإن لتأكيد الحكم، والرد على منكر أو شاك، والمخاطبون فيهم ذلك، فقد قالوا: من تلقاء نفسه، وقالوا: أساطير الأولين، وقالوا: تنزلت به الشياطين، فرد على جميع ذلك بذكر الإنزال، لا أنه مختلق، ولا من أساطير الأولين، إن قلت: إن المؤمنين يصدقون خبر المولى بلا توكيد، والكافرون يعاندون ولو تعدد التأكيد. أجيب بجوابين، الأول: يمنع أن الكافرين يعاندون مع التأكيد، فإن عادتهم الانقياد للتأكيدات، فربما حصل لهم هداية بسبب ذلك. الثاني: على تسليم أنهم يعاندون من التأكيد، فلا نسلم حصر إن في التأكيد، بل قد يؤتى بها ترغيباً في تلقي الخبر، والتنبيه بعظيم قدره وشرف حكمه، ويحتمل أنها للمتلكم المعظم نفسه، وهو الله تعالى، إشعاراً بتعظيم المنزل والمنزل به، ويحتمل أنها للمتكلم ومعه غيره، فإن الله أنزله، والملائكة لهم مدخلية في انزاله، والمعنى: إنا وملائكة قدسنا أنزلناه على حد { إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ } [الأحزاب: 56] والإسناد لله حقيقة إجماعاً، وللملائكة قيل كذلك، وقيل مجاوز عليه، فلا مانع من الجمع بين الحقيقة والمجاز يقال: بنى الأمير وعملته المدينة، ولا يعترض بالجمع بين القديم والحادث في ضمير واحد، فإنه حاصل في ضمير { يُصَلُّونَ } { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَحْكَمِ ٱلْحَاكِمِينَ } [التين: 8] ونحوه، وأما قوله عليه السلام للخطيب: بئس الخطيب لما قال: من يطع الله ورسوله فقد اهتدى، ومن بعصهما فقد غوى فأن الخطب محل إطناب، وقيل: وقف على قوله ومن يعصهما قبل الجواب.
قوله: { أَنزَلْنَاهُ } إن قلت الإنزال وصف للأجسام، والقرآن عرض لا جسم، فيكف يوصف بالإنزال؟ أجيب بجوابين، الأول: أن الإنزال بمعنى الإيحاء، وفي الكلام استعارة تبعية، حيث شبه الإيحاء بالإنزال، واستعير الإيحاء للإنزال، واشتق من الإنزال أنزلناه بمعنى أوحينا. الثاني: إن إسناد النزول إليه مجاز عقلي، وحقه أن يسند لحامله، فالتجوز إما في الظرف أو الإسناد. قوله: (أي القرآن) أشار بذلك إلى أن الضمير في { أَنزَلْنَاهُ } عائد على القرآن. إن قلت: إنه لم يتقدم له ذكر. أجيب: بأنه اتكل على عظم قدره وشهرة أمره، حتى لا يحتاج للتصريح. قوله: (جملة واحدة من اللوح المحفوظ) الخ، أي ثم نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم نجوماً مفرقة في مدة عشرين سنة، أو ثلاث وعشرين سنة، الخ، ومعنى إنزاله جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا؛ أن جبريل أملاه على ملائكة السماء الدنيا فكتبوه في صحف، وكانت تلك الصحف في محل من تلك السماء يقال له بيت العزة. قوله: (من سماء الدنيا) أي بيت العزة منها، وما ذكره المفسر، من أن المراد إنزال القرآن جملة إلى سماء الدنيا، أحد أقوال في تفسير الآية، وقيل: المعنى ابتدأنا إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم تلك الليلة. إن قلت: إن البعثة على رأس الأربعين وميلاده كان في ربيع، فيكف يكون مبدأ الوحي في رمضان ليلة القدر؟ أجيب: بأنه ألغى الكسر أو جبر أو ذلك، بناء على أن ميلاده في رمضان؛ وقد قيل به، أو مبدأ الوحي المنام في ربيع، ومبدأ إنزال القرآن في رمضان، وحكمة إنزاله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم إنزاله منها مفرقاً ولم ينزله مفرقاً من اللوح، أن سماء الدنيا مشتركة بين العالم العلوي والسفلي، فإنزاله إليها جملة فيها تعجيل لمسرته بنزول جميعه عليه، وإنزاله منها مفرقاً فيه تأنيس للقلوب، وترويج للنفوس، وتلطف به صلى الله عليه وسلم وبأمته، فلم يفته نزوله جملة ولا مفرقاً. قوله: (الشرف والعظم) هذا أحد اقوال، وقيل: { ٱلْقَدْرِ } بمعنى تقدير الأمور، أي إظهارها في دواوين الملإ الأعلى، سميت بذلك لأن الله تعالى يقدر فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة، من أمر الموت والأجل والرزق وغير ذلك، ويسلمه إلى مدبرات الأمور، وهم الأربعة الرؤساء: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، وقولنا: أي إظهارها في دواوين الملأ الأعلى، يدفع ما أورد أن تقدير الأمور أزلي، فإن قلت: إن تقدير الأمور ليلة النصف من شعبان يجاب: بأن ابتداء التقدير ليلة النصف من شعبان وتسليمه للملائكة ليلة القدر، وقيل: القدر بمعنى الضيق من قوله:
{ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } [الفجر: 16] { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } [الأنبياء: 87] لضيق الفضاء بازدحام مواكب الملائكة فيها.
قوله: { مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ } أي ما مقدار شرفها، وليس المراد ما حقيقتها، فإنها مدة مخصوصة من الزمن. قوله: (تعظيم لشأنها) أي تفخيم لأمرها، قال سفيان بن عيينة: إن كل ما في القرآن من قوله: { وَمَآ أَدْرَاكَ } أعلم الله به نبيه صلى الله عليه وسلم وما فيه، وما يدريك لم يعلمه به، والمراد إعلام الله تعالى في ذلك السياق نفسه، فلا ينافي أنه عليه السلام لم يخرج من الدنيا، حتى أعلمه الله بكل ما خفي عنه مما يمكن البشر علمه، وأما التسوية بين علم القديم والحادث فكفر.
قوله: { خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } أي وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، واختلف في حكمة ذكر العدد، فقيل: المقصود الكثرة، وقيل: إنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني إسرائيل، حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله عز وجل ألف شهر، فعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك، وتمنى ذلك لأمته فقال: يا رب جعلت أمتي أقصرر الأمم أعماراً وأقلها أعمالاً، فأعطاه الله ليلة القدر، فهي من خصائص هذه الأمة، وهي باقية على الصحيح، خلافاً لمن قال برفعها مستدلاً بحديث:
"خرجت لأعلمكم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت" ورد بأن الذي رفع تعيينها بدليل أن في آخر الحديث نفسه "وعسى أني كون خيراً لكم، فالتمسوها في العشر الأواخر" إذ رفعها بالمرة لا خير فيه، ولا يتأتى معه التماس. إن قلت: الرفع بسبب الملاحاة، يقتضي أنه من شؤم الملاحاة، فكيف يكون خيراً؟ قلت: هو كالبلاء الحاصل بشؤم معصية بعض العصاة، فإذا تلقى بالرضا والتسليم صار خيراً. إن قلت: فما هو الذي فات بشؤم الملاحاة؟ وما هو الخير الذي حصل؟ قلت: الفائت معرفة عينها، حتى يحصل غاية الجد والاجتهاد في خصوصها، والخير الذي حصل، هو الحرص على التماسها حتى يحيي ليالي كثيرة، وفي الجمعة قالوا: أخفى الرب أموراً في أمور لحكم: ليلة القدر في الليالي لتحيا جميعها وساعة الإجابة في الجمعة ليدعى في جميعها، والصلاة الوسطى في الصلوات ليحافظ على الكل. والاسم الأعظم في أسمائه ليدعى بالجميع ورضاه في طاعته ليحرص العبد على جميع الطاعات وغضبه في معاصيه لينزجر عن الكل. والولي في المؤمنين ليحسن الظن بكل منهم. ومجيء الساعة في الأوقات للخوف منها دائماً. وأجل الإنسان عنه ليكون دائماً على أهبة. فعلى هذا يحصل ثوابها لمن قامها ولو لم يعلمها، نعم العالم بها أكمل، هذا هو الأظهر، واختلفت المذاهب فيها، فقال مالك: إنها دائرة في العام كله، والغالب كونها في رمضان، والغالب كونها في العشر الأواخر منه. وقال أبو حنيفة والشافعي: هي في رمضان لا تنتقل منه والغالب كونها في العشر الأواخر، واشتهر عن أبي بن كعب وابن عباس وكثير أنها ليلة السابع والعشرين، وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر التي أعز الله بها الدين، وأنزل الله ملائكته فيها مدداً للمسلمين، وأيده بعضهم بطريق الإشارة، بأن عدد كلمات السورة ثلاثون كأيام رمضان، واتفق أن كلمة هي تمام سعبة وعشرين، وطريق آخر في الإشارة، أن حروف ليلة القدر تسعة، وقد ذكرت في السورة ثلاث مرات، وثلاثة في تسعة بسبعة وعشرين، ونقل عن بعض أهل الكشف ضبطها بأول الشهر مع أيام الأسبوع، فعن أبي الحسن الشاذلي: إن كان أوله الأحد فليله تسع وعشرين، أو الاثنين فإحدى وعشرين، أو ثلاثاء فسبع وعشرين، أو الأربعاء فتسع وعشرين، أو الخميس فخمس وعشرين، أو الجمعة فسبع عشرة، أو السبت فثلاث وعشرين. ومنها ما قاله بعضهم:

يا حب الاثنين والجمعة مواعيدك واحد والأربعا طي لتبعيدك
بكالى السبت هيي يا خميس عيدك كابد ثلاثاً ليالي القدر مع سيدك

فإذا كان أول الشهر الاثنين أو الجمعة تكون ليلة إحدى وعشرين ورمزه يا حب بالجمل، أو الأحد أو الأربعاء فتسع وعشرين ورمزه طي، أو السبت فثلاث وعشرين رمز بكالى، أو الخميس فخمس وعشرين ورمزه هيي، أو الثلاثاء فسبع وعشرين ورمزه كابد، والمشهور في ألسنة علماء الحديث أنا لغالب كونها في العشر الأواخر، وأنها في الأوتار، قال سيدي أحمد زروق وغيره: لا تفارق ليلة جمعة من أوتار آخر الشهر، ونحوه عن ابن العربي. قوله: (ليس فيها ليلة القدر) جواب عما يقال: إن الألف شهر لا بد فيها من ليلة القدر، فيلزم عليه تفضيل الشيء على نفسه وغيره. قوله: (فالعالم الصالح فيها) أي من صلاة ودعاء وتسبيح وغير ذلك.