التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ
٥
مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ
٦
-الناس

تفسير القرآن

كما قال: { يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ }[5-6] يعني في صدور الجن والإنس جميعاً، ووسوسة النفس في القلب. قال الله تعالى: { { وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } [ق:16] وإن معرفة النفس أخفى من معرفة العدو، ومعرفة العدو أجلى من معرفة الدنيا، وأسر العدو معرفته، فإذا عرفته فقد أسرته، وإن لم تعرف أنه العدو وأسرك فإنما مثل العبد والعدو والدنيا كمثل الصياد والطير والحبوب، فالصياد إبليس، والطير العبد، والحبوب الدنيا، وما من نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع، فإن كنت صائماً فأردت أن تفطر قال لك: ما يقول الناس، أنت قد عُرفت بالصوم تركت الصيام. فإن قلت: ما لي وللناس. قال لك: صدقت أفطر، فإنهم سيضعون أمرك على الحسبة والإخلاص في فطرك، وإن كنت عرفت بالعزلة فخرجت. قال: ما يقول الناس، تركت العزلة. فإن قلت: ما لي وللناس. قال: صدقت اخرج فإنهم سيضعون أمرك على الإخلاص والحسبة. وكذلك في كل شيء من أمرك، يردك إلى الناس حتى كأنه ليأمرك بالتواضع للشهرة عند الناس. ولقد حكي أن رجلاً من العباد كان لا يغضب، فأتاه الشيطان وقال: إنك إن تغضب وتصبر كان أعظم لأجرك. ففطن به العابد فقال: وكيف يجيء الغضب؟ قال: آتيك بشيء فأقول: لمن هو؟ فقل: هو لي، فأقول: بل هو لي. فأتاه بشيء وقال العابد: هو لي، فقال الشيطان: لا بل هو لي. فقال العابد: إن كان لك فاذهب به، ولم يغضب، فرجع الشيطان خائباً حزيناً، أراد أن يشغل قلبه حتى يصيب منه حاجته، فعرفه واتقى غرورة.
ثم قال سهل: عليك بالإخلاص تسلم من الوسوسة، وإياك والتدبير فإنه داء النفس، وعليك بالاقتداء فإنه أساس العمل، وإياك والعجب فإن أدنى باب منه لم تستتمه حتى تدخل النار، وعليك بالقنوع والرضا، فإن العيش فيهما، وإياك والائتمار على غيرك، فإنه لينسيك نفسك، وعليك بالصمت، فأنت تعرف الأحوال فيه، وعليك بترك الشهوات تنقطع به عن الدنيا، وعليك بسهر الليل تموت نفسك من ميلة طبعك وتحيي قلبك، وإذا صليت فاجعلها وداعاً، وخف الله يؤمنك وارجهُ يؤملك، واتكل عليه يَكفِك، وعليك بالخلوة تنقطع الآفات عنك. ولقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: لولا مخافة الوسواس لرحلت إلى بلاد لا أنيس بها، وهل يفسد الناس إلا الناس.
ثم قال سهل: مخالطة الولي بالناس ذل، وتفرده عزّ، وما رأيت أولياء الله تعالى إلا منفردين، إن عبد الله بن صالحرحمه الله كان رجلاً له سابقة جليلة وموهبة جزيلة، وكان يفرّ من بلد إلى بلد، حتى يأتي مكة، فطال بها مقامه، فقلت له: لقد طال مقامك بها. فقال: ولم لا أقيم بها، ولم أر بقعة ينزل فيها من الرحمة والبركة مثلها يطوف الملائكة حول البيت غدواً وعشية على صور شتى، لا يقطعون ذلك، وإن فيها عجائب كثيرة، ولو قلت كلما رأيت لصغرت عنه قلوب أقوام ليسوا بمؤمنين. فقلت: أسألك بحق الحق أن تخبرني بشيء من ذلك. فقال: ما من ولي لله تعالى صحّت ولايته إلا وهو يحضر في هذه البلد في كل ليلة جمعة، ولقد رأيت رجلاً يقال له مالك بن القاسم الجبليرحمه الله تعالى ليلة هاهنا ورايت على يده غمراً فقلت: إنك لقريب العهد بالأكل. فقال: أستغفر الله فإني منذ أسبوع لم أطعم شيئاً، ولكني أطعمت والدتي وأسرعت لأدرك صلاة الفجر هاهنا جماعة، وبين مكة وبين الموضع الذي جاء منه سبعمائة فرسخ، فهل أنت مؤمن بذلك؟ فقلت: بلى. فقال: الحمد لله الذي أراني مؤمناً مؤمناً.
وقال ابن سالم: كنت عند سهلرحمه الله تعالى، فأتاه رجلان بعد صلاة العصر، وجعلا يحدثانه، فقلت في نفسي: لقد أبطأا عنده، وما أراهما يرجعان في هذا الوقت، وذهبت إلى منزلي لأهيئ لهما عشاء، فلما رجعت إليه لم أر عنده أحداً، فسألت عن حالهما، فقال: إن أحدهما يصلي المغرب بالمشرق، والآخر بالمغرب، وإنما أتياني زائرين.
ولقد دخل سهل على رجل من عباد البصرة، فرأى عنده بلبلة في قفص، فقال: لمن هذه البلبلة؟ فقال: لهذا الصبي، كان ابناً له، قال: فأخرج سهل من كمه دينار فقال: بني أيما أحب إليك الدينار أم البلبلة؟ فقال: الدينار. فدفع إليه الدينار وأطلق البلبلة. قال: فقعد البلبل على حائط الدار حتى خرج سهل، فجعل يرفرف فوق رأسه، حتى دخل سهل داره، وكان في داره سدرة فسكنت البلبلة السدرة، فلم تزل فيها حتى مات، فلما رفعوا جنازته جعلت ترفرف فوق جنازته والناس يبكون، حتى جاؤوا بها إلى قبره، فوقفت في ناحية حتى دفن وتفرق الناس عن قبره، فلم تزل تضطرب على قبره حتى ماتت، فدفنت بجنبه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.