التفاسير

< >
عرض

بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ
١
-الفاتحة

حقائق التفسير

قال أبو القاسم الحكيم: { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } إشارة إلى المودة بدءًا.
حُكى عن العباس بن عطاء أنه قال: الباء بره لأرواح الأنبياء بإلهام الرسالة والنبوة، والسين سره مع أهل المعرفة بإلهام القربة والأنس.
والميم منته على المريدين بدوام نظره إليهم بعين الشفقة والرحمة.
وقال الجنيد في { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }: بسم الله هيبته، وفي الرحمن عونه، وفي الرحيم مودته ومحبته. وقيل الباء في { بسم ٱلله } بالله ظهرت الأنبياء وبه فنيت وبتجليه حسنت المحاسن وباستناره فتحت وسمحت.
وحكى عن الجنيدرحمه الله أنه قال: إن أهل المعرفة نفوا عن قلوبهم كل شئ سوى الله عز وجل، وصفُّوا قلوبهم لله، وكان أول ما وهب الله تعالى لهم فناهم عن كل شئ سوى الله قولوا بسم الله إلينا فانتسبوا ودعوا انتسابكم إلى آدم عليه السلام.
وقيل أيضاً: إن { بسم } لبقاء هياكل الخلق، فلو افتتح كتابه باسمه؛ لذابت تحت حقيقتها الخلائق إلا من كان من نبى أو ولى، والاسم بنور نعيم الحق على قلوب أهل معرفته.
وقيل في { بسم ٱلله }: إنه صفاة أهل الحقيقة لئلا يتزينوا إلا بالحق، ولا يقسموا إلا به.
وقال أبو بكر بن طاهر: الباء سر الله بالعارفين، والسين السلام عليهم، والميم محبته لهم.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إنْ صح هذا، الباء بهاؤه والسين سناؤه، والميم مجده.
وقيل: إن الباء في { بسم ٱلله } إلينا وصلهم إلى { بسم ٱلله }.
سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم الإسكندرانى يقول: سمعت أبا جعفر الملطى يذكر عن على بن القاسم موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد عليه السلام قال: { بسم } الباء بقاؤه والسين أسماؤه والميم ملكه، فإيمان المؤمن ذكره ببقائه وخدمة المريد ذكره بأسمائه، والعارف عن المملكة بالمالك لها.
وقال أيضاً: { بسم } ثلاثة أحرف: باء وسين وميم فالباء باب النبوة، والسين سر النبوة الذي أسرَّ بها النبي صلى الله عليه وسلم به إلى خواص أمته، والميم مملكة الدين الذى أنعم به للأبيض والأسود، وأما { ٱلله } فإن محمد بن موسى الواسطى قال: ما دعى الله أحد باسم من أسمائه، إلا ولنفسه في ذلك نصيب إلا قوله { ٱلله }، فإن هذا الاسم يدعوه إلى الوحدانية وليس للنقص فيه نصيب، وقيل: كل أسمائه تقتضى عوضًا عند الدعاء إلا { ٱلله }، فإنه اسم تفرد الحق به. وقيل: كل من قال: { ٱلله } فمن عادة قالها إلا من غيب عن شاهده، وقام الحق بتوليته عنه، عند ذاك زالت العيوب والزلل.
وقال الحسين: بسم الله منك منزلة "كن" منه فإذا أحسنت أن تقول: { بسم ٱلله } وأنكرت فيه فضل من الله أن تقول الله وأنتم عند الغفلة والحيرة تحققت الأشياء بقولك { بسم ٱلله } كما يتحقق له كن.
وحُكى عن الشبلى أنه قال: ما قال الله أحد سوى الله، فإن كل من قاله قاله بحظ وأنَّى يدرك الحقائق الحظوظ.
وقال أبو سعيد الخراز في كتاب درجات المريدين: ومنهم من جاوز نسيان حظوظ نفسه، فوقع في نسيان حظه من الله ونسيان حاجته إلى الله فهو يقول: لا أوركها أريد وما أقواه وما أنا ومن أين أنا، ضاع اسمى فلا اسم لى، وجهلت فلا علم لى، وضللت فلا جهل لى، وأسوق إلى من يعرف أقول فيساعدنى فيما أقول، وإذا قيل لأحدهم ما تريد قال: الله وما تقول الله قال وما علمت قال: الله فلو تكلمت جوارحه لقالت: الله وأعضاؤه ومفاصله ممتلئة من نور الله المخزون عنده، ثم يصيرون فى القرب إلى غاية لا يقدر أحد منهم أن يقول الله؛ لأنه ورد في الحقيقة على الحقيقة ومن الله على الله ولا حيرة، ومعناه لا حيرة فيما فيه الحيرة.
وسُئل الحسين بن منصور هل ذكره أحد على الحقيقة فقال: كيف يذكر على الحقيقة من لا أمد لكونه ولا علة لفعله ليس له كدُّك، ولا لغيبه هدَّك له من الأسماء معناها والحروف مجراها إذ الحروف مبدوعة والأنفاس مصنوعة، والحروف قول القائل تنزغن ذلك من الأحوال خلقة، رجع الوصف في الموصف، وعمى العقل عن الفهم، والفهم عن الدرك، والدرك عن الاستنباط، ودار المُلكُ في المِلك، وانتهى المخلوق إلى مثله، عدا قدره الظن، ودها نوره الغيبة.
وقيل: إن الألف الأول من اسمه الله ابتداؤه، واللام الأول لام المعرفة، واللام الثاني لام الآلاء والنعماء والسطر الذي بين اللامين معانى مخاطبات الأمر والنهى، والهاء نهاية مما تكن العبادة عنه من الحقيقة لا غير.
وقيل: إن الألف آلاء الله، واللام لطف الله واللام الثانى لقاء الله والهاء هيبة بآلاء الله فَوَلِهَ به المحبون والمشتاقون حين عجزوا عن علم شئ منه.
وحكى أن أبا الحسين النورى بقى في منزله سبعة أيام لم يأكل ولم ينم ولم يشرب، ويقول في ولَهِه ودهشه: الله الله، وهو قائم يدور فأُخبر الجنيد بذلك فقال: انظروا أمحفوظ عليه أوقاته أم لا؟ فقيل: إنه يصلى الفرائض فقال: الحمد لله الذى لم يجعل للشيطان عليه سبيلاً ثم قال: قوموا حتى نزوره إما نستفيد منه أو نفيده فدخل عليه وهو في ولهه قال: يا أبا الحسين ما الذي دهاك؟ قال: أقول: الله الله زيدوا علىَّ فقال له الجنيد: انظر هل قولك الله الله أم قولك قولك إن كنت القائل الله فالله ولست القائل له وإن كنت تقوله بنفسك فأنت مع نفسك فما معنى الوله فقال: نعم الود فسكنت وسكن عن ولهه فكان الشبلى يقول: الله فقيل له لم لا يقول لا إله إلا الله؟ فقال: لا أنفى به ضدًا.
وقيل في قوله: الله هو المانع الذى يمنع الوصول إليه لما امتنع هذا الاسم عن الوصول إليه حقيقة كانت اللذات أشد امتناعاً لعجزهم في إظهار اسم الله، ليعلموا بذلك عجزهم عن ذكر ذاته.
وقيل في قوله الله: الألف إشارة إلى الوحدانية واللام إشارة إلى محو الإشارة، واللام الثانى إشارة إلى محو المحو في كشف الهاء.
وقيل: إن الإشارة في الألف هو قيام الحق بنفسه وانفصاله عن جميع خلقه ولا اتصال له بشئ من خلقه كامتناع الألف أن يتصل بشئ من الحروف ابتداء بل تتصل الحروف به على حد الاحتياج إليه واستغنائه عنها.
وقيل: إنه ليس من أسماء الله عز وجل اسم يبقى على إسقاط كل حرف منه اسم الله إلا الله فإنه الله، فإذا أسقطت منه الألف يكون { ٱلله } فإذا أسقطت إحدى لاميه يكون "له" فإذا أسقطت اللامين بقى "الهاء" وهو غاية الإشارات.
وأما وَلَهِ الخلق في تولهم فمنهم من وَلِهَ سره في عظمة جلاله، ومنهم من وَلِهَ قلبه في وجوه معرفته، ومنهم من وَلِهَ لسانه بدوام ذكره.
وحكى عن ابن الشبلى قال في تجلى الجنيد في ولهه: الله فقال له الجنيد: يا أبا بكر الغيبة حرام أى أن ذكر الغائب غيبة فإن كنت غائبًا فالذكر غيبه وإن كنت تذكره عن مشاهدة فهو ترك الحرمة.
وقيل: من قال الله بالحروف، فإنه لم يقل الله لأنه خارج عن الحروف والخصوص والأوهام ولكن رضى منك بذلك لأنه لا سبيل إلى توحيده من حيث لا حال ولا قال.
وقيل إن معنى قول الله: إن الأسماء كلها داخل فى هذا الاسم وخارج منه، يخرج من هذا الاسم معنى الأسماء كلها ولا يخرج هذا الاسم من اسم سواه وذلك أن الله عز وجل يفرد به الاسم دون خلقه وشارك خلقه في اشتقاقات أساميه.
وقال بعض البغدادين: ليس الله ما يبدو لكم وبكم ووالله والله ما هذا فهو الله هذه حروف تبدو لكم وبكم، فإذا انظهر انتقيت فمعناه ها هو الله، وقال أبو العباس بن عطاء: قوله { ٱلله } هو إظهار هيبته وكبريائه.
وكتب أبو سعيد الخراز إلى بعض إخوانه: هل هو إلا الله، وهل يقدر أحد أن يقول الله إلا الله، وهل يرى الله إلا الله، وهل عرف الله أو يعرفه إلا الله، وهل كان قبل العبد وقبل الخلق إلا الله، وهل الآن فى السماوات وفى الأرضين وما بينهما إلا الله؟ إذ لم تكونوا فكونوا بالله ولله.
قال أبو سعيد الخراز: رأيت حكيماً من الحكماء فقلت له: ما غاية هذا الأمر قال: الله. قلت: فما معنى قولك الله؟ قال: يقول اللهم دلنى عليك وثبتنى عند وجودك ولا تجعلنى ممن يرضى بجميع ما هو ذلك عوضاً وأقر قرارى عند لقائك.
وقال أبو سعيد: إن الله عز وجل أول ما دعا عباده دعاهم إلى كلمة واحدة فمن فهمها فقد فهم ما وراءها وهى قوله { ٱلله } ألا يراه يقول قل هو الله فتم به الكلام لأهل الحقائق ثم زاد بيانًا للخاص فقال: أحد، ثم زاد بيانًا للأولياء فقال: الصمد، ثم زاد بيانًا للعوام، فقال: لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، فأهل الحقائق استغنوا باسمه الله وهذه الزيادات لمن نزلت مرتبته عن مراتبهم.
وقيل: إن كل أسمائه تتهيئ أن يتخلق به إلا قوله الله فإنما هو للتعلق دون التخلق وقيل: إن الإشارة في { ٱلله } هو اتصال اللامين والهاء وانفصال الألف عنه أى إنما أشرتم به إلى الله من ألف التعريف منفصل عنى لا بكم بإياكم.
يقولون: وما كان من صفاتى فإنه متصل به كلله حيث اتصلت حروفه.
سمعت منصوراً بإسناده عن جعفر أنه قال فى قوله { ٱلله }: إنه اسم تام لأنه أربعة: أحرف الألف وهى عمود التوحيد واللام الأول لوح القلم واللام الثانى لوح النبوة والهاء النهاية فى الإشارة، والله هو الاسم المتفرد لا يضاف إلى شئ بل تضاف الأشياء كلها إليه، وتفسير المعبود الذى هو إله الخلق منزه عن درك ماهيته والإحاطة بكيفيته وهو المستور عن الأبصار، والأفهام والمتحجب بجلاله عن الإدراك.
قوله تعالى: { الرَّحْمٰنِ }.
باسم الرحمن خرجت جميع الكرامات للمؤمنين مثل الإيمان والطاعات والولاية والعصمة وسائر المنن وكل نعمة تدوم ولا يستحق أحد من المخلوقين هذا الاسم لإن المخلوق عاجز عن إعطاء شئ لأحد يدوم ويبقى.
وأيضًا فإن رحمة الرحمانية للمريدين بها ينفصلون عما دون الرحمن، ولما عمت رحمته في العاجلة على الولى والعدو في معايشهم وأرزاقهم وغير ذلك سمى رحمن.
وقيل فى اسمه الرحمن: حلاوة المنة ومشاهدة القربة ومحافظة الخدمة.
وقيل: إن المحبين يتنعمون بأسرارهم فى رياض معانى اسمه الرحمن فيجتنون منها ثمرة الأنس ويشربون منها ماء القربة ويتنعمون على ضفاف أنهار القدس ويرجعون منها برؤية الآلاء والنعماء، والخائفون يتلذذون فى قلوبهم فى معانى اسمه الرحمن ويتزودون منها حلاوة السكون والأمن، والتائبون يتروحون بأسرارهم فى معانى اسمه الرحمن فيرجعون منها بصفا السر وطهارة القلوب، والعاصون يمرون على ميادين اسمه الرحمن فيرجعون منها بالندم والاستغفار.
وقال ابن عطاء: فى اسمه الرحمن عونه ونصرته.
وقال الواسطى: الرحمن لا يتقرب إليه أحد إلا بصرف رحمانيته، والرحيم يتقرب إليه بالطاعات لأنه يشارك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
{ { بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 128].
قوله تعالى: { الرَّحِيـمِ }.
يقال: إن معنى الرحيم هو ما يخرج من الرحمة الرحيمية لمعاش الخلق ومصالح أبدانهم فلذلك لم يمنعوا أن يتسمَّوا بالرحيم ومنعوا بالتسمية بالرحمن.
وقيل: إن معنى الرحيم أى بالرحيم وصلتم إلى الله وإلى الرحمن والرحيم بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم في قوله:
{ { بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } } [التوبة: 128] كأن معناه يقول بسم الله الرحمن الرحيم وبالرحيم محمد وصلتم إلى أن قلتم بسم الله الرحمن الرحيم، والرحيم هو الذى يقبلك بجميع عيوبك إذا أقبلت عليه، ويحفظك أتم الحفظ فى العاجلة وإن أدبرت عنه، لاستغنائه عنك مقبلاً ومدبرًا.
قال ابن عطاء: فى اسمه { الرَّحِيـمِ } مودته ورحمته، سمعت منصورًا بإسناده عن جعفر فى قوله { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } قال: هو واقع على المريدين والمرادين، فاسم الرحمن للمرادين لاستغراقهم فى الأنوار والحقائق، والرحيم للمريدين لبقائهم مع أنفسهم واشتغالهم بإصلاح الظواهر، والرحمن المنتهى بكرامته إلى ما غاية له لأنه قد أوصل الرحمة بالأزل وهو غاية الكرامة ومنتهاه بدءًا وعاقبة، والرحيم وصل رحمته بالياء والميم وهو ما يتصل به من رحمة الدنيا والهدى والأرزاق.