التفاسير

< >
عرض

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ
٨٣
-الأنبياء

حقائق التفسير

قوله تعالى ذكره: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ } [الآية: 83].
حدثنا أبو بكر محمد بن عبدالله بن شاذان قال: حدثنا عبدالله بن جعفر بن على الموصلى، قال: حدثنا الحسن بن داود قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن أنس قال: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فسأله عن قول أيوب: { مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ } فبكى النبى صلى الله عليه وسلم وقال:
"والذى بعثنى بالحق نبيًا ما شكى نبيًا فقرًا نزل إليه من ربه، ولكن كان فى بلائه سبع سنين، وسبع أشهر، وسبع أيام، وسبع ساعات، فلما كان فى بعض ساعات وثب ليصلى قائماً فلم يطق النهوض فجلس ثم قال: مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين" . قال صلى الله عليه وسلم: "أكل الدود سائر جسده حتى بقى عظامًا نخرة فكانت الشمس تطلع من قُبله وتخرج من دبره" ثم قال النبى صلى الله عليه وسلم: "ما بقى إلا قلبه ولسانه، وكان قلبه لا يخلو من ذكر الله جل وعز، ولسانه لا يخلو من ثنائه على ربه، فلما أحب الله له الفرج بعث إليه الدودتين إحداهما إلى لسانه، والأخرى إلى قلبه، فقال: يا رب ما بقى إلا هاتان الجارحتان، قلبى ولسانى أذكرك بهما، وقد أقبلت هاتان الدودتان إحداهما إلى قلبى، والأخرى إلى لسانى، يقطعانى عنك ويطلعانى على سرى: { مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ }" .
قال أبو عبد الرحمن السلمى: وإنى برئ من عهدة هذا الحديث، وليس يشبه هذا كلام النبى صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عطاء: استعذب الأولياء البلاء للمناجاة مع المولى لذلك قال الحسين بن على: ذكر الله على الصفاء ينسى العبد مرارة البلاء.
وقال جعفر: خرج منه هذا الكلام على المناجاة مستدعيًا للجواب من الحق ليسكن إليه لا على حد الشكوى.
وقال النصرآباذى: الخلق كلهم فى ميادين فضله يتروحون، وألسنتهم منبسطة بالشكوى فصيحة به.
قال جعفر: لما سلط الله البلاء على أيوب وطال به الأمر أتاه الشيطان فقال: إن أردت أن تتخلص من هذا البلاء فاسجد لى سجدة فلما سمع ذلك فقال:
{ { مَسَّنِيَ ٱلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } [ص: 41] ومسنى الضر حين طمع الشيطان فى أن أسجد له.
وقال أيضًا: لما تناهى أيوب في البلاء واستعذبه صار البلاء وطنًا له، فلما اطمأنت إليه نفسه وسكن عنه البلاء شكره الناس على صبره، ومدحوه عليه فقال: { مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ } لفقد الضر وأنشد فى معناه:

تَعودتُ مَس الضُّـر حَتَى ألفِتُهُ وأسلَمنى حُسن العَزاء إلى الصبرِ
وصيّرنى يأسى من النَّاسِ راجيًا لسرعة لطفِ من حَيْث لا أدرى

وقال الجنيد رحمة الله عليه: قال الله لأيوب: لولا أنى جعلت تحت كل شعرة منك صبرًا لما صبرت وكنت مع هذا تشكو وتقول: { مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ }.
وقال ابن عطاء: تبدد همه، وليس فى العقوبات شىء أشد من تبدد الهم فمرة كان يطالع فى بلائه العقوبة، فيقول: لعلى فيه معاقب، ومرة كان يطالع الكرامة فيقول: لعلى ما دفعت إليه كرامة من الله، ومرة يطالع الاستدراج ويقول: لعلى فى صبرى مستدرجًا، فلما تشتتت عليه الخواطر، قال: مسنى الضر من تشتت هذه الخواطر لأن فيه شبه التحير.
وقال بعضهم: كان أيوب قائمًا مع الحق فى حال الوجد فلما كشف عنه البلاء وأظهره، وكشف ما به قال: { مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ }.
وقال الجنيد رحمة الله عليه: عمل الدود فى جسده فصبر فلما قصدوا قلبه غار عليه لأنه موضع المعرفة، ومعدن التوحيد، ومأوى النبوة والولاية، وقال: { مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ } افتقارًا إلى الله مع ملازمة آداب النبوة.
وقال ابن عطاء: لما أراد الله كشف ضر نبيه أيوب أحب أن يكون من أيوب فيه حركة لإقامة العبودية أبلاه بما الصبر فيه مذموم. وهو الغيرة، فخاف أن يكون قد جعل العدو على أهله سبيلاً فقال:
{ { مَسَّنِيَ ٱلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ } [ص: 41] فنودى في سره مسك الضر يا أيوب.
فقال صلى الله عليه وسلم معتذرًا عما قال: { مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } على معنى الأستفهام "أيمسنى الضر وأنت أرحم الراحمين؟".
وقال سهل فى قوله: { أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ } قال أظهر فى أيوب عليه السلام البلاء، وأعطاه الصبر فلما أن قام بأحكام الصبر ورثه الرضا بالبلاء فصار شكواه إليه مناجاة له فى مس البلاء.
وقال ابن خفيف: كان أيوب مستترًا بحال الصبر عن البلاء، فلما أراد الله إظهاره للخلق ضجّ فقال: { مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ }.
وقال أبو على المغازلى: أوحى الله إلى أيوب فى حال بلائه، يا أيوب: إن هذا البلاء قد اختاره سبعون نبيًا قبلك فما اخترته إلا لك. فلما أراد الله كشفه عنه قال: آه مسنى الضر.
وقال سهل: الضر على وجهين: ضر ظاهر، وضر باطن، فالباطن حركة النَّفْس عند الوارد واضطرابها، والظاهر الآلام. وإذا تحرك الباطن تحت الوارد انزعج الظاهر بالصياح والدعاء.
وقال الحسين: تجلى الحق لسره، وكشف عنه أنوار كرامته فلم يجد للبلاء ألمًا فقال: { مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ } لفقدان ثواب البلاء والضر، إذ صار البلاء وطنًا وعلى نعمة.
وقال بعضهم فى قوله: { مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ }: أى أنت أرحم بى من أن يمسنى معك الضر.
وقال الجنيد رحمة الله عليه: ليس من صفات البشر أن يتجلد على البلاء إلا بالنظر إلى المبلى، إذ ذاك يصير البلاء عنده نعمة، وإنما معنى هذه الآية: أيمسنى الضر وأنت لى؟ هذا ما لا يكون.
وقال غيره: نال كل عضو منه البلاء إلى موضع البداء فنادى الضر فى الباقى منه على العافية لا من موضع البلاء فقال: { مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ } نداء، لا شكوى. وأنشد شعرًا:

ولو مضى الكل منى لم يكن عجبًا وإنما عجبى للبعض كيف بقى
أدرك بقية روح فيك قـد تلفــت قبل الفـراق وهذا آخر الرمق

قال الواسطى رحمة الله عليه فى قوله: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } طاعتك خاصة نداء فذكر ضره ومحبته، وفزع إلى ما عرف من صفته ونعته، كما فزع محمد صلى الله عليه وسلم إلى قوله: "أعوذ برضاك من سخطك" فاستجبنا له وكشفنا ما به من ضر لأدبه فى وقت السؤال، وقلة حيلته فى وقت الدعاء.
وقال الجنيد رحمة الله عليه: أنت أرحم بى من أن ترينيه ضرًا بعد أن جعلتنى فى حقيقة الرضاء، وهو الوقوف معك بلا طلب زيادة أو نقصان.
سمعت المنصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم الإسكندرانى يقول: سمعت أبا جعفر الملطى عن على بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد فى قوله { مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ } قال: حُبس عنى الوحى أربعين يومًا فخشى الهجران من ربه، والقطيعة فقال: { مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ }.
سُئل الجنيد رحمة الله عليه عن قوله { مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ } قال: عَرّفه فاقة السؤال ليَمُن عليه بكرم النوال.