التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ
٥٢
-الأنعام

لطائف الإشارات

هذه وصية له - صلى الله عليه وسلم - في باب الفقراء والمستضعفين، وذلك لما قَصَرُوا لسان المعارضة عن استدفاع ما كانوا بصدده من أمر إخلاء الرسول - صلوات الله عليه وسلامه - مجلسه منهم، وسكنوا متضرعين بقلوبهم بين يدي الله أرادَ أنْ يُبَيِّن له أَثرَ حُسْنِ الابتهال فتولَّى - سبحانه - خصيمتهم.
وقال: { وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ }: لا تنظر يا محمد إلى خِرقتهم على ظاهرهم وانظر إلى حرقتهم في سرائرهم.
ويقال كانوا مستورين بحالتهم فشهرهم بأن أظهر قصتهم، ولولا أنه - سبحانه - قال: { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } فشهد لهم بالإرادة وإلا فمن يتجاسر أن يقول إن شخصاً مخلوقاً يريد الحق سبحانه؟
ويقال إذا كانت الإرادة لا تتعلق - في التحقيق - إلا بالحدوث، وحقيقة الصمدية متقدسة عن الاتصاف بالحدثان، فمن المعلوم أن هذه الإرادة ليست بمعنى المشيئة، ولا كاشتقاق أهل اللغة لها.
فيقال تكلم الناس في الإرادة: وأكثر تحقيقها أنها احتياج يحصل في القلوب يسلب القرار من العبد حتى يصل إلى الله؛ فصاحب الإرادة لا يهدأ ليلاً ولا نهاراً، ولا يجد من دون وصوله إليه - سبحانه - سكوناً ولا قراراً، كما قال قائلهم:

ثم قطعتُ الليلَ في مَهْمَةٍ لا أسداً أخشى ولا ذيبا
يغلبني شوقي فأطوي السُّرى ولم يَزَلْ ذو الشوق مغلوبا

ويقال تقيَّدت دعوتهم بالغداة والعشيّ لأنها من الأعمال الظاهرة، والأعمالُ الظاهرة مؤقتة، ودامت إرادتهم فاستغرقت جميع أوقاتهم لأنها من الأحوال الباطنة، والأحوال الباطنة مسرمدة غير مؤقتة، فقال: { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ } ثم قال: { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي مريدين وجهه فهي في موضع الحال.
ويقال أصبحوا ولا سؤال لهم من دنياهم، و لا مطالبة من عقباهم، ولا همَّ سوى حديث مولاهم، فلما تجردوا لله تمحضت عناية الحق لهم، فتولَّى حديثهم وقال: ولا تطردهم - يا محمد - ثم قال: ما عليك من حسابهم من شيء؛ فالفقير خفيف الظهر لا يكون منه على أحد كثير مؤنة؛ قال تعالى: { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ } لا تطالب بحسابهم ولا يطالبون بحسابك، بل كلٌّ يتولى الحقُّ - سبحانه - حسابَه؛ فإِن كان أمره خيراً فهو ملاقيه، وإن كان شراً فهو مقاسيه.