التفاسير

< >
عرض

وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لأَخِيهِ هَارُونَ ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ
١٤٢
-الأعراف

لطائف الإشارات

قوله جلّ ذكره: { وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً }.
عِدَةُ الأحباب عزيزة، فإذا حصلت المواعدة بين الأحباب، فهي عذبة حلوة كيفما كانت، وفي هذا المعنى أنشدوا:

أمطلينا وسَوِّفي وعِدِينا ولا تَفِي

ويقال عَلَّلَ الحقُّ - سبحانه - موسى بالوعد الذي وعده بأن يُسْمِعَه مرةً أخرى كلامَه، وذلك أنه في المرة الأولى ابتلاه بالإسماع من غير وعد، فلا انتظار ولا توقع ولا أمل، فأخذ سماعُ الخطاب بمجامع قلب موسى - عليه السلام - فعلَّق قلبه بالميقات المعلوم ليكون تأميله تعليلاً له، ثم إن وعد الحقِّ لا يكون إلا صدقاً، فاطمأن قلبُ موسى - عليه السلام - للميعاد، ثم لمَّا مضت ثلاثون ليلة أتى كما سَلَفَ الوعد فزاد له عشراً في الموعد. والمطل في الإنجاز غير محبوب إلا في سُنَّةُ الأحباب، فإن المطل عندهم أشهى من الإنجاز، وفي قريب من هذا المعنى أنشدوا:

أقيمي لعمرك لا تهجرينا ومَنِّينا المنى، ثم امطلينا
عِدينا موعداً ما شِئْتِ إنَّا نحبُّ وإنْ مطلت تواعدينا
فإِما تنجزي وعدَكِ أو فإنا نعيش نؤمل فيك حينا

قوله جلّ ذكره: { وَقَالَ مُوسَىٰ لأَخِيهِ هَارُونَ ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ }.
كان هارون - عليه السلام - حمولاً بحسن الخُلُق؛ لمَّا كان المرورُ إلى فرعونَ استصحب موسى - عليه السلام - هارونَ، فقال الله - سبحانه -:
{ وَأَشْرِكْهُ فِيۤ أَمْرِي } [طه: 32] بعد ما قال: { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } [القصص: 34]. ولمَّا كان المرور إلى سماع الخطاب أفرده عن نفسه، فقال: و { ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي } وهذا غاية لحَمْلِ من هارون ونهاية التصبر والرضاء، فلم يَقُلْ: لا أقيم في قومك. ولم يقل: هلاَّ تحملني مع نفسك كما استصحبتني حال المرور إلى فرعون؟ بل صبر ورضي بما لزم، وهذه من شديدات بلاء الأحباب، وفي قريب منه أنشدوا:

قال لي من أحب والبين قد حلَّ وفاقاً لزفرتي وشهيقي
ما تُرى في الطريق تصنع بعدي قلت: أبكي عليك طول الطريق

ثم إن موسى لما رجع من سماع الخطاب، فرأى من قومه ما رأى من عبادة العِجْل أخذ برأس أخيه يجره إليه حتى استلطفه هارون - عليه السلام - في الخطاب، فقال: { يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } [طه: 94].
ويقال لو قال هارون - عليه السلام: إن لم تعوضني عما فاتني من الصحبة فلا تعاتبني فيما لم أذنب فيه بحال ذرةً ولا حبَّةً.. لكان موضع هذه القالة.
ويقال الذنبُ كان من بني إسرائيل، والعتاب جرى مع هارون، وكذا الحديث والقصة، فما كلُّ مَنْ عصى وجنى استوجب العتابَ، فالعتابُ ممنوعُ عن الأجانب.