قوله جلّ ذكره: { وَٱكْتُبْ لَنَا فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ }.
نَطَقَ بلسان التضرع والابتهال حيث صَفَّى إليه الحاجة، وأخلص له في السؤال فقال: { وَٱكْتُبْ لَنَا فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ } أي اهدنا إليك.
وفي هذه إشارة إلى تخصيص نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - في التبري من الحول والقوة والرجوع إلى الحقِّ لأن موسى - عليه السلام قال: { وَٱكْتُبْ لَنَا فِي .... } ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكلني إلى نفسي طرفة عين" ولا أقلَّ من ذلك، وقال: "واكفلني كفالة الوليد" ثم زاد في ذلك حيث قال: "لا أحصي ثناء عليك" .
قوله جلّ ذكره: { إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ }.
أي مِلْنَا إلى دينك، وصِرْنَا لكَ بالكلية، في غير أَنْ نترك لأنفسنا بقية.
قوله جلّ ذكره: { قَالَ عَذَابِيۤ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ }.
وفي هذا لطيفة؛ حيث لم يقل: عذابي لا أُخْلِي منه أحَداً، بل علَّقَه على المشيئة. وفيه أيضاً إشارة؛ أنّ أفعاله - سبحانه - غيرُ مُعَلَّلَة بأكساب الخلق؛ لأنه لم يقل: عذابي أصيب به العصاة بل قال: { مَنْ أَشَآءُ }؛ وفي ذلك إشارة إلى جواز الغفران لمن أراد لأنه قال: { أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ } فإذا شاء ألا يصيب به أحداً كان له ذلك، وإلا لم يكن حينئذٍ مختاراً.
ثم لمَّا انتهى إلى الرحمة قال: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } لم يُعَلِّقها بالمشيئة؛ لأنها نفس المشيئة ولأنها قديمة، والإرادة لا تتعلق بالقديم. فلمَّا كان العذابُ من صفات الفعل علَّقه بالمشيئة، بعكس الرحمة لأنها من صفات الذات.
ويقال في قوله تعالى: { وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } مجالٌ لآمالِ العُصَاة؛ لأنهم وإن لم يكونوا من جملة المطيعين والعبادين والعارفين فهم { شَيْءٍ }.
قوله جلّ ذكره: { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـاةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ }.
أي سأوجبها لهم، فيجب الثواب للمؤمنين من الله ولا يجب لأحدٍ شيء على الله إذ لا يجب عليه شيءٍ لعزِّه في ذاته.
قوله ها هنا: { لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي يجتنبون أَنْ يروا الرحمة باستحقاقهم، فإذا اتقوا هذه الظنون، وتيقنوا أن أحكامه ليست معللةً بأكسابهم - استوجبوا الرحمة، ويحكم بها لهم.
{ وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } أي بما يكاشفهم به الأنظار مما يقفون عليه بوجوه الاستدلال، وبما يلاطفهم به في الأسرار مما يجدونه في أنفسهم من فنون الأحوال.