التفاسير

< >
عرض

ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ
٥٢
وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥٣
وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ
٥٤
قَالَ ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
٥٥
وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٥٦
-يوسف

عرائس البيان في حقائق القرآن

قوله تعالى { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ } اخبر الله سبحانه ان يوسف لما دعى من السجن لم يبادر سريعا الى الخروج حتى تفحص شان النسوة وزليخا حين قالت لسيدها اجزاء من اراد باهلك سوءا بقوله ما بال النسوة اللاتى قطعن ايديهن انظر كيف كان ادبه عليه السلام حيث لم يذكر زليخا وذكر النسوة وغرضه فى ذلك زليخا ولكن اخرج نفسه من محل التهمة باللطف والرمز فيه كانه قال للرسول ما بال بالنسوة اللاتى قطعن ايديهن فى وجهى واستغراقهن فى حبى كانه تكلم من المسره من الام سرهن وفيه ما فيه من لطائف الاشارات وغرضه من تفحص اثبات الحجة على قومه وبيان طهارته من علة الزنا حتى لا يشوش اعتقادهم فى شان نبوته ورسالته لا انه ينظر الى الخلق وجاههم فانه كان فى محل التمكين من التوكل والرضا فقوله ذلك ليعلم انى لم اخنه بالغيب مظنة هذه المعانى لم اخنه فى غيبته بنظر السوء الى اهله وايضا لم اخنه فى غيب خاطرى بميل سرى الى غير الله وكيف احزن وهو تعالى لا يهدى الخاين الى مراده لان من خان لا يظفر بما يريد ولا يهدى من طبعه الخياننة الى محبته ومعرفته ومشاهدته قال ابن عطا لم === فيما يتمنى من الاهل والمال وقال سهل لم انقض له عهد ولم اكشف له سر او قال الاستاد فى قوله ليعلم انى لم اخنه بالغيب بيان الشكر ما عصمت الله ولما قال انى لم اخنه بالغيب عارضه لسان الحق فى السر فيما هم بقوله ولقد همت بها وهم بها وقال اهل التفسير لما قال يوسف هذه المقالة قال له جبرئيل ولا حين همت بها فلما سمع يوسف اصوات الغيب بتغيير سره ادرك ما فاته من غيبته عن مراعاة النفس ولزم لسانها بالدعاوى واعتذر بقوله { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ } مقالة الاولى من يوسف خبر عن بدايته فى وقوعه فى البلاء وهناك جبلته النبوة المقدسة عن التهمة وما جرت فى البين هو لطيفة الله من قهره وامتحانه وغلبة قدره السابق على رسوم الامر وما ذكر فى العذر خبر من تلك اللطيفة وافهم ان سر قوله وما ابرئ نفسى ان النفس لامارة بالسوء ان هذه النفس ليست لشيطان ولا قلب ولا ملك ولا عقل ولا شئ له اعين يتبين لاحد فبعضهم يسمى النفس الهوة وبعضهم يسمى النفس الطبيعة والبشرية وميلها الى الشهوة يسمى النفس وهذه الاقوال هى صورة رسوم العلم وحقيقتها والله اعلم انها هى وجود قهر القدم يظه رفغلبته فى الفعل ويحرك طباع الانسانية المستعدة المخلوقة لقبول ما يصدر من القهريات مما يؤول اواخره الى سخط الله وامتحانه وحجابه فالقوم حكموا بما صدر من القهر انه نفس وانا ارجع الى الاصل لان القهر صفة دائمة ازلية محركة طباع البشر الى طلب الشهوات ولا يطيق احد ان يخرج من تحته الا بلطف الله بقوله الا ما رحم ربى لانه صفة غالبة على جميع الذرات وهو صفة الله سبحانه وهو نفس النفس لان ذاته تعالى موصوف بصفت القهر وان قهره حار جميع الحدثان تحت غلبته ومن يدعى ان يبعد نفسه من سلطان قهره بقوله وما ابرئ نفسى اى ما ابرئ نفسى من غلبة قهر الله عليها وانها مقهورة بين يديه وايضا ما ابرئ نفس النفس عن القهر والغلبة فان نفس النفس امارة الى ما يقتضى القهر وما يقتضى القهر يقتضى الامتحان وما يقتضى الامتحان يقتضى الملامة فى رسوم العلم وقوله الا ما رحم ربى اى الا من عصمه الحق بلطفه عن قهره واشار بهذا الى وجوده حين عصمت بلطفه عن قهره وقوله وما ابرئ نفسى اثبات ما جرى من الهمت اى ما ابرئ نفسى من الهمت التى همت بها وهذا محل من عرف سر القهر وسر الخطاب وسر الامتحان وسر النفس وغلبة الربوبية بقوله عليه السلام من عرف نفسه فقد عرف ربه ولما عرف حقائق النفس صلى الله عليه وسلم استعاذ منها الا الاصل وقال اعوذ برضاك من سخطك واعوذ بمعافاتك من عقوبتك واعلمنا عليه السلام انه تعالى نفس النفوس بقوله اعوذ بك منك ومن اراد ان برأ نفسه فقد نازع الربوبية فان النفس اصل القدر السابق على ما جرى من البلاء والامتحان الا ترى الى قوال الواسطى كيف قال من لام نفسه فقد اشرك وقال ايضا رؤية التقصير من النفس شرك لان من لاحظ نفسا من نفسه فقد جحد الازلية للحق ومن لام نفسه فى شئ من اموره فقد اشرك لانه اضاف الى نفسه ما لم يكن منه قط وقال ابن عطا ما ابرئ نفسى بنفسى انما ابرئ نفسى ربى قال ابو حفص من لم يتهم نفسه على دوام الاوقات ولم يخالفها فى جميع الحوال ولم يجرها الى مكروهها ومخالفتها فى سائر ايامه كان مغرورا ومن نظر اليها بامتحان شئ منها فقد اهلكها وكيف يصح لاقل رضى نفسه والكريم بن الكريم بن الكريم بن الكرين يقول وما ابرئ نفسى ان النفس لامارة بالسوء تحملك على الطاعة وتضمن فيها شر او قال سهل خلق الله النفس وجعل طبعها الجهل وجعل الهوى اقرب الاشياء منها وجعل الهوى الباب الذى منه هلاك الخلق قال الله تعالى ان النفس لامارة بالسوء هى نفس الروح والروح هو نفس الجسد وقال سهل النفس الامارة هى الشهوة والنفس المطمئنة هى نفس المعرفة وقال ابو حفص النفس ظلمة كلها وسراجها سرها ونور سراجها التوفيق فمن لم يصحبه توفيق فى سره من ربه كان ظلمة كلها وقال سهل ان النفس لامارة بالسوء موضع الطبع الا ما رحم ربى موضع العصمة وقال الواسطى النفس ظلمة وسراجها سرها فمن يكن له فهم فى ظلمة ابدا وقال الاستاد فى قوله وما ابرئ نفسى بيان العذر لما قصر فى امر الله فاستوجب واستحق بعذره العفو والغفران فلما ثبت الحجة والسلطان وظهر قدسه وطهارته من علل الشيطان طمع الملك فى ان راه ويعظمه بقوله { وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } اى استخلصه لموعظة نفسى ليعرفنى طريق نجاة نفسى من عذاب الله وايضا استخلصه بخالص محبتى له ليعرفنى خالص محبة الله وخصائص صفة ربوبيته وايضا استخلصه لنفسى حتى افش عنده ما فى نفسى من اسرارى قال ابن عطا كيف يستخلصه لنفسه وقد استخلصه الحق من قبل فهو لديه من المخلصين قوله تعالى { فَلَمَّا كَلَّمَهُ } اخبره عما فى ضمائره من اسرار الغيب وما فى غيب الغيب وما يتعلق بصفاء العقول وما فى حيات القلوب وما كان من وصف الله وصف الطريق اليه بلسان فصيح ووجه صبيح الذى يبرز نور الحق منه للعالمين { قَالَ إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } اى انت بما تخبر من الحق واسراره متمكن امين فما اودع الله فى شرك من النبوة والرسالة والولاية حيث يشهد بصدقك جمالك وجلالك فان معنى الباطن يظهر من ظاهرك انت عندنا ذا مكانة وذا امانة فاحكم بنا ما شئت فانى لا اوثر على امرك شيئا قال بعضهم راى شاهد صدق يخبر عن صدق فغلبه عز الصدق وروية صديقه فقال انك اليوم مكين امين وقال الشبلى فلما كلمه اخبر يوسف عما فى قلبه من كوامن سره فقال انك متمكن فى نفسك امين حيث اطلعت على الاسرار فاما الملك ايات الله فى بلاد الله وعباده من يوسف بجله واكرمه واعزه واختار على جميع الخلق فعلم يوسف ان ما عرف الملك فى جنب ما لم يعرفه منه اقل القليل فاظهر ما وهبه الله له من علمه بالله وبطريقه وحفظ حدوده فى شريعته وشفقته على خلقه فقال { ٱجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } اخبر الله يوسف الملك ايضا عن مقام تمكينه وقدرته بالتصرف فى ملك الدنيا بان لا يحتجب فى تصرفها عن مشاهدة الله وملك الآخرة وليس كل من ينصرف فى الدنيا متمكن الا من كان على وصف يوسف ووصف يوسف حفظ الانفاس بالذكر وحفظ القلب بالفكر حفظ انفاسه عن الوسواس وحفظ قلبه وفكره عن ذكر غير الله عليهم بذات الله وصفاته وآياته وعبادته وايضًا انى حفيظ بنور تفرس نبوتى ما يقع من امور المقادير عليهم بعلم الله ما يجرى فى القلوب من الغيوب وخزائن الارض فى الاشارة قلوب الربانيين من الاولياء والصديقين قا لالواسطى مدح النفس قبيح فى الشاهد الانى وقت الاذن فيه وله حين واوان الا ترى يوسف كيف قال انى حفيظ عليم وقال بعضهم خزاين الارض رجالها فقال اجعلنى عليهم ومينا فانى حفيظ لما يظهرونه مكشوف لى ما يضمرونه وكذلك الانبياء صلوات الله عليهم وقال ابو سعيد الخراز ان لله عباد يدخل عليهم الخلل ولولا ذاك فسدوا وتعطلوا وذاك انهم بلغوا من العلم غاية صاروا الى علم الجهول الذى لم ينصه كتاب ولا جاء به خبر ولكن العقلاء العارفون يحتجبون له من الكتاب والسنة وذلك بحسن استنباطهم وفهومهم وهو قول يوسف اجعلنى على خزائن الارض ثم بين سبحانه تمكين يوسف ومكانته واستقلاله بنفسه فى مقام الرسالة والنبوة بقوله { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ } الاشارة فيه ملك بحسنه وجماله ولطفه وكماله ارض قلوب الخلق محبة وهيبة تجلس محبته حيث شاءت فى صميم فواد الناس بقوله { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ } اضاف مكانه يوسف الى نفسه لا الى سبب من اسباب الحدثان وذلك اشارة الى سبق العناية له بالرسالة واكسائه كسوة جماله وجلاله ثم بين ان ذلك رحمته الازلية التى خص بها من يشاء من عباده { نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ } رحمته كشف مشاهدته للانبياء والاولياء وتعريف نفسه بكشف الصفات لهم اياهم حتى عرفوه به وسهل عليهم طريق عرفانه حيث رفع بينه وبينه علل المجاهدات والرياضات وذلك منة عظيمة ورحمة كافية اذا كشف عزة السرمدية للادميين وما مالى بانهم لا يستحقون شهودهم مشاهدته وانى لهم مع حدوثيتهم البقاء مع القديم الازلى الابدى ويتلاشى الاكوان والحدثان فى الاول بديهة سطوات عزته وظهور مجد جلاله ولكن تجاوز عنهم وعن حدوثيتهم برحمته واراهم ما لم يكن لغيرهم من المكروبين والروحانيين لانه تعالى اختار لهم فى الازل لنفسه ولوصاله وكشف جماله ووضع اسراره فى قلوبهم اى بلغنا يوسف الى هذه المراتب السنية الرفيعة برحمتنا بعنايتنا وكرمنا هذا مكان العناية التى انقطع عندها الاسباب ثم بين انه مع جلاله ولطفه لا يضيع اجر العاملين الذين سلكوا سبيل الاعمال ليصلوا الى درجة الاحوال بقوله { وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } اجر اهل الاحسان كشف الجمال مشاهدة الرحمن واحسانهم طلب طلوع صبح الازل من مشارق الابد بعيون الارواح ودوران بصائر الاسرار الا ترى الى قوله عليه الصلاة والسلام فى جوابه السائل عن الاحسان قال الاحسان ان تعبد الله كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك فاحسان يوسف مراقبة الله فى بلائه وذلك الاحسان والمراقبة من عصمة الله ورحمته لان العصمة مقرونة بالاصطفائية وكيف كان معصوماً من لم يسبق له الاصطفائية فى الازل وايضا احسان يوسف العفو والكرم للخاطئين وتعريف الله بوصفه وصفاته الى عباده يحبوه ويطيعوه وايضا احسان يوسف كشف جماله لاهل البلاء والقحط حتى عاشوا بالنظر الى وجهه قال الواسطى فى قوله نصيب برحمتنا من نشاء من لم يفصل بين اول هذه الاية واخرها التبست عليه آيات القران واشكلت اوله للعلماء واخره للجهال به الا ترى الى قوله نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع اجر المحسنين فبرحمته استوجب اسم الاحسان وبرحمته عرف الهداية والبيان وبرحمته اشار الى غوامض القران قال الله الرحمن علم القران وقال ابن عطا نصيب برحمتنا من نشاء بفضلنا يهدى من يشاء الى سبيل المعرفة وقال بعضهم المحسن من يرى جميع ما يجرى عليه من الاحسان منه من الحق عليه.