التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ
١٢
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ
١٣
ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ
١٤
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ
١٥
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ
١٦
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ ٱلْخَلْقِ غَافِلِينَ
١٧
-المؤمنون

عرائس البيان في حقائق القرآن

قوله تعالى { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } لما خلق الله سبحانه الكون والكاينات من العرش الى الثرى طبق العرض فوق الكرسى وطبق الكرسى فوق السماوات السبع وقد احاط الكرسى بالسماوات وركب بعضها بعضا ثم تجلى من قهر سلطان عظمته وجلال قدمه بنعت الاستواء على العرض فزلزل العرش ثم تزلزل الكرسى ثم تزلزلت السماوات من ثقل الكرسى وعرق الكرسى من ثقل العرش وعرق العرش من ثقل ---- الاستواء فجرى عرقها وصار بحور قد خلت البحور بين السماوات وتلاطمها حتى القت خوالص زبدها وروحها فوقها فيبست تلك الزبدة التى هى حقائق عرق الوجود الذى صدر من نور الاستواء وهو حامل السر التجلى قد خلت البحور تحتها وصارت كالزبدة اليابسة من كثرة حركة محاض الكون ثم انسطحت واظهرت حقايقها فمضت عليه ايام الله التى معهدها فرد انوار تجلى الصفات والذات عليها فلما رباها الحق بافانين تجلى صفاته وذلك فيض عنها قبضة بقبضة جبروته وطرحها فوق ملكوته وتلك القبضة من خالص تلك الزبدة المعجونة لعقاقير انوار الصفات فمطر عليها وبل بحر الالوهية وخمرها بايدى العزة وصورها بنقوش خاتم الملك والقاها فى واد القدرة بين فضاء الازل والأباد حتى مضى اصباح مشاق شموس الذات واقمار الصفات ثم كشف سر الغيرة من الروح التى خلقها قبل صورتها بالفى الف عام وكانت فى حجال الانس وبحار القدس صدرها من مكامن غيوب العلوم وسر اسرار ودائع اسرار الذات والصفات والقدم والبقاء وصفة حبيب الله صلوات الله عليهما بقوله خلق الله أدم على صورته وكان عليه السّلام معادن الارواح القدسية والاشباح الانسية فاذا اراد سبحانه خلق ذريته حركة بقدرته والقى عليه سباتا من عظته واخرج حواء من ضلعه ثم حرّكها بسر سره ذلك السر شهوتهما التى اورث فيها تجلى نعوت الجمال والجلال فوصل الشهوة بالشهوة وانشقت بالنطفة الخالصة التى مصادرها ما ذكرنا من اسرار تجلى الاستواء وابقاها فى مصدر الفعل وقلبها فى دعوى التجلى وايام التدلى وساعات كشف الملكوت والجبروت والملك والقدرة ثم تجلى لها فى قرار رحم الفعل بالهيبة والعزة فصارت ملونة بلون حسن الفعل الذى هو مرأة تجلى الجمال وذلك قوله سبحانه { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً } فلما اذابها فى كبر العشق بنفخ المحبة وصبغها بصبغ المودة صبغها فى بوتقة الفطرة ذهبا لنقش نقوش خاتم الملك والقاها فى مشرق كشف شموس الربوبية حتى نضجت بنيان المحبة وصارت سبيكة من لطف التجلى وهذا معنى قوله { فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً } ثم صيّرها سوا فى بحار وماء الطبيعة وجعل سواقيها عروق مشارب الفطرة فتحركت من غلبتها فغرس فيها الحق اشجار فعله حتى سكن بناها باستوائه قدرته بقوله { فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً } ثم خلعها خلعة مزيد فيض النظر فى زمان التربية بقوله { فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً } ثم تركها فى ضياء فعله ونور تجلى قدرته ليكمل استعدادها قبول نقش الملك فنقشها بنقش سر العلم بصورة أدم ثم زين وحجها بزينة نور جماله وصورها بصورة رفع فعله وكلها برحمته وجعل قلبها مجامع الاخلاق وكيدها مجامع الطبائع ودماغها منورا بنور عقل ---- فلما كساها نور خلقه وكملها بقدرته وادخلها روحه فصار أدم ثانيا مواضع كنوز ربوبيته وحقائق قدرته وعلمه وهذا معنى قوله { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } ثم نزه نفسه عن المشاهدة بالحدث والتغائر بتغائر الزمان والمكان بقوله { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } قدس جلاله عن الابعاض والتجزى والتمثيل والتصوير ما احسن صنعه وقدرته حين جاء أدم عالما وجعل فى أدم ما فى جميع العالم وقال الحسين الخلق متفاوتون فى منازلهم ومقامات خلقهم وصفاتهم وقد كرم الله بنى أدم بصورة الملك والملكوت وروح النور ونور المعرفة والعلم وفضلهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا وقال ايضا خلق بنى أدم بين الامر والثواب وبين الظلمة والنور فعدل خلقهم وزاد المؤمنين بايمانهم نور مبينا وهدى وعلما وفضلهم على ساير العالمين كما نقلهم فى بدر خلقهم من حال الى حال فاظهر فيهم القطرة والاياب وتكامل فيهم الصنع والحكمة والبينات وتظاهر عليهم الروح فالنور والسبحات مذ كانوا ترابا ونطفة وعلقة ومضغة ثم جعله خلقا سويا الى ان كملت فيهم المعرفة الاصلية قال الله لو قد خلقنا الانسان الى قوله احسن الخالقين وقال الحسين خلق الخلق فاعدلها على اربع اصول الربع الا على الهيبة والربع الأخر أثار الربوبية والربع الأخر النورية بين فيها لتدبير والمشية والعلم والمعرفة والفهم والفطنة والفراسة والادراك والتمييز وافات الكلام والربع الأخر الحركة والسكون كذلك خلقه فسواه وقال ايضا فى قوله ثم انشاناه خلقا أخر فطر الاشياء بقدرته ودبرها بلطيف صنعه فابدا أدم كما شاع لما شاع واخرج منه ذرية على النعت الذى وصف من مضغة وعلقة وبدايع خلقه واوجب لنفسه ----- اسم الخالق عند صنعة الصانع لم يحدثوا له اسما كان موصوفا بالقدرة على ابداء الخلق فلما -----اظهر اسمه الخالق للمخلوق وابرزه لهم وكان هذا اسم مكنونا لديه مدعوا فى ازاله سمى بذلك نفسه روعا نفسه به بالخلق جميع عن ادراك وصف قدرته عاجزون ولك ما وصف الله به نفسه فهو له وهم له واجل اظهر للخلق من نعوته ما يطيقونه ويليق بهم فتبارك الله احسن الخلاقين ثم ان الله سبحانه بعد ومن الخلق والخليقة وأدم والذرية اعلمنا محل فنائنا عن هذه الاوصاف الكاملة والصنايع الشريفة ------ فى التراب واظهار زيادة قدرة فينا بادخال حياة ثانية فى اشباحنا وتربية ثانية فى اروحنا بقوله { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ } الموت يتعلق بصعقة سطوات العزة وظهور انوار العظمة وحيوتنا يتعلق بكشف جمال الازلى هناك تعيش الارواح والاشباح بحياة وصالية لا يجرى بعدها موت الفراق قال الحسين ملك الموت هو موكل بارواح بنى أدم وملك الفناء موكل بارواح البهائم --- العلماء هو بقاؤهم الا انه استتار عن الابصار وموت المطيعين المعصية اذا عرف من عصاه وقال بعضهم من مات من الدنيا خرج الى حياة الأخرة من مات من الاخرة خرج منها الى الحياة الاصلية والبقاء مع الله ثم بين سبحانه وصف اعلام قدرته وعجائب صنوف صنعه فى خلقه من سمواته وما فيها من طرقها الى --- ملكوته بقوله { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ ٱلْخَلْقِ غَافِلِينَ } اوضح سبع طرائق لنا الى انوار صفاته السبعة وتلك الطرائق طريق الروح الى معادن الربوبية وعرفانها بالحقيقة فمنها طريق العقل ومنها طريق العلم ومنها طريق الحكمة ومنها طريق المعاملة ومنها طريق النفس ومنها طريق القلب ومنها طريق السر وطريق العقل التفكر فى الالاء والنعماء وطريق العمل معرفة الخطاب وطريق الحكمة المعرفة بحقيقة الاشياء وطريق المعاملة تحصيل ---- وصفاتها باستعمال الاداب وطريق النفس قطعها عن حظوظها والمعرفة بمكائدها واخلاقها وطريق القلب المعرفة بنازلات لطائف الغيب فيه وطريق السر معرفة اتصالها بنور الحضرة فمن قطع هذه الطرق يصل الى سبع الصفات ورؤيتها والعلم بها حتى يصل الى بحار الذات واستغرق فيها بنعت الحيرة فاذا استغاث من حيرته به ادركه بفيض المعرفة والوصلة وذلك معنى قوله وما كنا عن الخلق غافلين ظاهر الأية تنبيه يوجب الاجلال والتعظيم فى منازل المعاقبات فمن بقى فى هذه الحجب السماوية والارضية وارتهن بشئ منها فقد انقطع عن مواصلة المشاهدة قال ابو يزيد فى هذه الأية ان لم تعرف فقد عرفك --- تصل اليه فقد وصل اليك غبت او غفلت عنه فليس عنك بغائب ولا غافل قال الله تعالى وما كنا عن الخلق غافلين وقال بعضهم سبع حجب متصلة تحجبه عن ربه فالحجاب الاول عقله والحجاب الثانى علمه والحجاب الثالث قلبه والحجاب الرابع حبه والحجاب الخامس نفسه والحجاب السادس ارادته والحجاب السباع شميته فالعقل باشتغاله بتدبير الدنيا والعلم لمباهاته مع الاقران والقلب الغفلة والحواس لاغفالها عن موارد الامور عليها والنفس لانها ماوى كل بلية والارادة هى ارادة الدنيا والاعراض عن الأخرة والمشية وهى ملازمة الذنوب وقال الاستاذ فوقنا حجب ظاهرة وباطنه ففى ظاهر السماوات حجب تحويل بيننا وبين المنازل العالية وعلى القلوب المغشية غطاء كالمنية والشهوة والارادة الشاغلة الغفلات المتراكمة اما المريدون اذا اظلتهم سحايب الفترة سكن هيجان ارادتهم فذلك من الطرائق التى علتهم واما الزاهدون فاذا تحرك بهم عروق الرغبة نفذ قوة زهدهم وضعف دعائهم صبرهم فيترخصون بالجنوح الى بعض التأويلات فيعود رغباتهم قليلا قليلا ويحيل رتبة ---- وتنهد دعائم زهدهم فبداية ذلك من الطرائق التى خلق فوقهم واما العارفون فربما تظلهم فى بعض ---- وقفه فى تصاعد سرّهم الى ساحات الحقائق فيصيرون موقوفين ريث ما يتفضل الحق سبحانه بكفاية ذلك فيجدون نفاذ او يرفع عنهم ما عاقهم من الطرائق وفى جميع هذا الحق سبحانه غير تارك للعبد ولا عن الخلق غافل.