التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا ٱلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً
٤٥
ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً
٤٦
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ لِبَاساً وَٱلنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَ نُشُوراً
٤٧
وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً
٤٨
لِّنُحْيِـيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً
٤٩
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً
٥٠
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً
٥١
فَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً
٥٢
وَهُوَ ٱلَّذِي مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً
٥٣
-الفرقان

عرائس البيان في حقائق القرآن

قوله تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ } الاشارة فى الاية ان للعارفين فى مقام المراقبة والمحاضرة ثلث مقامات مقام كشف انوار الفعل وكشف انوار الصفة وكشف انوار الذات فاذا ذهب ظلام ليالى الطبيعة من عالم الغيب وتلاشى دخان النفس الامارة وصار سماء الروح وهواء العقل وارض القلب صافية عن عللها وظلمات هواها ولم يكن هناك شمس الذات وانوار الصفات يمد الحق سبحانه ظلال بهاء فعله فى ولاية القلب على مقادير تربية اسراره فلما قويت الاسرار بظلال فعله يطلع عليها انوار الصفات فلما قويت بانوار الصفة يطلع عليها شمس الذات قرباه او لا فى ظل الفعل ثم قوة بنور الصفة ثم كشف له جلال الذات حتى صار مكاشفا مشاهدا عين الحقيقة واصل الاصول وهناك محل الفناء والبقاء ومقام الخطاب الصرف وظهور اسرار الربوبية فالاول ظل العناية والثانى مقام الولاية والثالث مقام المشاهدة التى هى قبلة الكلية بجميع الانبياء الصديقين والمقربين ومنتهى مامول الراغبين هذه مسالك جميع السالكين ولسيد العالمين عليه الصلاة والسلام فى ذلك خاصية لم يكن لاحد فيها تصيب وذلك انهم يسلكون من مقام مشاهدة نور الفعل الى مشاهدة نور الصفة ثم الى مشاهدة نور الذات وهو عليه السلام فى اول حاله شاهد العين ثم شاهد الصفة ثم شاهد الفعل حق لعالمين ولو بقى فى مقام الاول لما استمتع به الخلق فى متابعته الا ترى الى قوله سبحانه لحبيبه عليه السّلام الم تر الى ربك اشهده ذاته وابرز له صفاته ثم حال الى رؤية الفعل بقوله كيف مد الظل لئلا يفنى فى سطوات عظمة ذاته وصفاته فلما ضاف مكان فى رؤية الفعل وطالب الاصل وشق عليه الاحتجاب به عنه كاشف الحق عنه ضرار الفعل وابرز له مشاهدة ذاته بقوله { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً } اى خفيا سريعا ولولا فضله ورحمته فى قبضه خفيا يسر الاحترق الكل فى اوّل بداهة طلوع الجمال والجلال على قلوبهم وهو تعالى خاطب الجمهور برؤية فعله وخاطب حبيبه برؤية ذاته وصفاته وهنا كما قال الواسطى اثبت للعامة المخلوق فاثتبوا الخلاق واثبت للخاصة الخلاق فاثبتوا به المخلوق ومخاطبة العام الم تر ان الله يزجى سحابا ---- ينظرون الى الابل كيف خلقت ومخاطبة الخاص الم ترى الى ربك قال بعضهم قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الم ترى ربك كيف مد ظل العصمة قبل ان ارسلك الى المخلوق ولو شاء لجعله ساكنا اى جعله مهملا ولم يفعل بل جعل الشمس التى طلعت من صدرك دليلا ثم قبضانه الينا قبضا يسيرا هذا خطاب من اسقط من الرسوم والوسايط قال ابن عطا كيف حجب الخلق عنه ومد عليهم ستور الغفلة وحجبها وقال فى قوله ثم جعلنا الشمس عليه دليلا شموس المعرفة هى دلائل القلب الى الله وعن جعفر قال حجب الخلق عنه وقال بعضهم الظل حجاب بينك وبين الله ولو شاء لجلعه اسكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا وهو نور الهداية بالاشارة ثم قبضناه الينا قبضا يسيرا وهو جذب القدرة التى يجذبك من الاشياء اليه وقال الاستاذ ظل العناية على احوال اوليائه فقوم هم فى ظل الحماية وأخرون فى ظل الرعاية وأخرون فى ظل العناية والفقراء فى ظل الكفاية والاغنياء فى ظل الراحة والحماية ويقال احيا قلبه بقوله لم ترى الى ربك ثم افناه بقوله كيف مد الظل فكذا سنته مع عباده ويردوهم بين افناء وابقاء ثم من الله علينا براحة الليل وسره بقوله { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱللَّيْلَ لِبَاساً وَٱلنَّوْمَ سُبَاتاً } اذا هجم ظلال لليل على اهل شوقه هاج اسرارهم بنعت الشوق والانس الى قربه ووصاله فينكشف لهم اسرار الملك والملكوت وانوار العزة والجبروت وهم ينقلبون فيها باشكال غريبة وحركات عجيبة ومناجاة لطيفة وموجبات عظيمة وعبرات عزيزة ولولا ستر الليل عليهم لفشا احوالهم وانكشف اسرارهم عند الخلق فاذا كانوا فى حالة اليقظة فحالهم الغلبات فاذا انسو بنور الجمال ياخذهم النوم ويقطعهم عن التهجد وبرجات الوجد فيسكنون فى روح الانس وراحة القدس وربما يرون المقصود فى نومهم كما حكى عن ----- شجاع انه لم ينم ثلثين سنة فاتفق انه تام ليله فراى الحق سبحانه فى مامه ثم بعد ذلك ياخذ الوسادة معه ويضطجع حيث كان فسئل عن ذلك فانشا يقول

رايت سرور قلبى فى منامى فاحبت التنفس والمناما

يافهم لهم فى زمان الامتحان ليل الحجاب وسبات الغفلات فاذا ذابوا فى مقام الغرقة اخذ الله ايديهم بكشف الوصال بقوله { وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَ نُشُوراً } اطلع عليهم بعد ذلك شمس العناية من مشرف الكفاية نومهم سببب الزلفات وسباتهم راحة المداناة وهذا حال اهل النهايات

وانى لا ستغفى وما بى نعسه لعل خيالات منك يلقى خياليا

قال الاستاذ الليل وقت السكون قوم ووقت الانزعاج أخرين فارباب الغفلة يسكنون فى ليلهم والمجنون يسهرون فى ليلهم ان كانوا فى روح الوصال فلا ياخذهم النوم بكمال انفسهم وان كانوا فى الم الفراق فلا ياخذهم النوم لكمال قلقهم فالسهر للاحباب صفة اما لكما السرور او الهجوم الهموم ويقال جعل النوم لقوم من الاحباب وقت التجلى يريهم ما لا سبيل اليه فى اليقظة فاذا اراوا ربهم المنام يوثرون النوم على السهر وهذا كما انشد

فلولا رجاء الوصل ما عشت ساعة ولولا مكان الطيف لم اتهجع

ثم زاد منته بان نشق نسائم روح وصاله اهل شوق جماله بقوله { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } اذا اراد سبحانه كشف لقائه لارواح العاشقين يرسل رياح الواردات قيل حصول كشف المشاهدات فيستنشقون منها نسيم الانس وهم يعلمون ان ذك مبشر كشف القدس والحكمة فى ذلك انه تعالى يكتسر بها قلوب المحبين غبار الحدثان وهو اجس النفس والشيطان حتى لا يبقى فيها غير جمال الرحمن فاذا راؤا أثار ملك المبشرات علموا ان فى ذلك وقت ظهور المقصود وحصول المامول

وانى لاستهدى الريح نسبكم اذا اقبلت من نحوكم بهبوب

قال ابن عطا يرسل رياح الندم بين يدى التوبة قال ابو بكر بن طاهر ان الله يرسل الى القلب ريحا فيكفه من المخالفات وانواع الكدورات ويصفيه لقبول الموارد عليه اذا صارف القلب ذلك الريح فتنم نسيمها ثم اشتاق الى الزوايد من فنون المراد فيكرمه الله بالمعرفة ويزينه بالايمان الا تراه يقول وهو الذى الأية يرسل الرياح الاشتياق على قلوب الاحباب فتزعجها عن المساكنات ويطهرها عن كل شئ الا عن اللوايح فلا تستقر الا بالكشف والتجلى ويقال اذا انتسمت القلوب نسيم القرب هام فى ملكوت الحلال وامحى من كل رسوم ومعهود ثم زاد المنة سبحانه بذكره وصف مياه الكرم الذى يطهر بها قلوب احباب وجه القدم من يرث غبار العدم بقوله { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً } انشأ فى الاول سحايب الرحمة وبشر رياح الزلفة ثم مطر مطر الخطاب والكلام من حبر الذات والصفات على ارض قلوب اهل المشاهدات فظهرها من صفات البشريات واحياها من موت الغفلات وانبت فيها اشجار المعرفة---- ذلك قوله تعالى { لِّنُحْيِـيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } ثم جعل قلوبهم سوا فى المعارف والكواشف فيفيض سقيها الى الارواح والاشباح قال تعالى { وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً } قال بعضهم طهر قلوبهم ببركاته عَنِ المخالفات وطهرا بدانهم بظاهر رحمته من جميع الانجاس قال النصار ابادى هو الرش الذى يرش من مياه المحبة على قلوب العارفين فيحيى به نفوسهم باماتة الطبع فيها ثم يجعل قلبه اماما للخلق بفيض بركاته عليهم فيصيب بركات نور قلبه من كل ذوات الارواح قال الله تعالى نسقيه الاية قال الاستاذ انزل من السماء ماء المطر فاحيا به الرياض والفياض وانبت به الازهار والانوار وانزل من السّماء ماء الحرمة فغسل للعصاة ما تنطحوا به من الاوضار وتدنسوا به من الاوزار وماء الحياء يطهر قلوب العارفين عن الجنوح الى المساكنات وما فى بعض الاحوال يتداخلا من الغفلات وماء الرعاية يحيى به قلوب المشتاقين مما يتداركها من انوار التجلى حتى يزول عنها عطش الاشتياق ويحصل فيها من سكنه الاستقلال ويحيى به نفوسا ميتة اتباع الشهوات فيرّدها الى القيام بالعبادات ثم مرج سبحانه بحر ---- النكرة فى قلوب العارفين بقوله { وَهُوَ ٱلَّذِي مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ } فبحر المعرفة بحر الصفات وبحر النكرة بحر الذات ثم وصف البحرين فقال { هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } فبحر الصفات عذب للعارفين اذ هى فياضة لطائفها الى الارواح والقلوب والعقول وهى ادركت نعوتها واسماءها بنورها ففهمت وعرفت معارفها وكواشفها على قدر الطاقة لا على الحقيقة وبحر ملح اجاج اذ امتنع بحار وحقائقه عن تناول العقول والقلوب والارواح والاسرار فاذا انحسرت هذه الساءرات فى بيداء الازل وانقطعت ساحتها فى بحار القدم فصارت نكراتها مهلكها بحر الذات الى بحر الصفات قال تعالى بينهما برزخ لا يبغيان ولا يختلطان فمياه بحر الروح من بحار مشاهدة الالطاف ومياه بحر النفس ملح اجاج وهى من بحار القهريات قال ابن عطا تلاطمت صفتان فتلاقيا فى قلوب الخلق فقلوب اهل المعرفة منورة بانوار الهداية ---- بضياء الاقبال وقلوب اهل النكرة مظلمة بظلمات المخالفات معرضة عن سنن التوفيق وبينهما قلوب العامة ليس لها علم بما يرد عليها ---- منها ليس معها خطاب ولا لها جواب قال الاستاذ القلوب بعضها معدن اليقين والعرفان وبعضها محل الشرك والكفران.