التفاسير

< >
عرض

وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ
١٢٧
إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ
١٢٨
-النحل

تفسير القرآن

{ واصْبِر وما صبرك إلا بالله } اعلم أنّ الصبر أقسام: صبر لله، وصبر في الله، وصبر مع الله، وصبر عن الله، وصبر بالله. فالصبر لله هو من لوازم الإيمان وأول درجات أهل الإسلام. قال النبي عليه الصلاة والسلام: "الإيمان نصفان، نصف صبر ونصف شكر" ، وهو حبس النفس عن الجزع عند فوات مرغوب أو وقوع مكروه، وهو من فضائل الأخلاق الموهوبة من فضل الله لأهل دينه وطاعته المقتضى للثواب الجزيل. والصبر في الله هو الثبات في سلوك طريق الحق، وتوطين النفس على المجاهدة بالاختيار، وترك المألوفات واللذات، وتحمل البليّات، وقوّة العزيمة في التوجه إلى منبع الكمالات، وهو من مقامات السالكين، يهبه الله لمن يشاء من فضله من أهل الطريقة. والصبر مع الله هو لأهل الحضور، والكشف عند التجرّد عن ملابس الأفعال والصفات، والتعرّض لتجليات الجمال والجلال، وتوارد واردات الأنس والهيبة، فهو بحضور القلب لمن كان له قلب، والاحتراس عن الغفلة والغيبة عند التلوينات بظهور النفس وهو أشقّ على النفس من الضرب على الهام، وإن كان لذيذاً جداً. والصبر عن الله هو لأهل الجفاء والحجاب، نورانياً كان أو ظلمانياً، وهو مذموم جداً، وصاحبه ملوم حقاً وكلما كان أصبر كان أسوأ حالاً وأبعد، وكلما كان في ذلك أقوى كان ألوم وأجفى أو لأهل العيان والمشاهدة من العشاق والمشتاقين المتقلبين في أطوار التجلي والاستتار. والمنخلعين عن الناسوت المتنوّرين بنور اللاهوت ما بقي لهم قلب ولا وصف كلما لاح لهم نور من سبحات أنوار الجمال احترقوا وتفانوا، وكلما ضرب لهم حجاب ورد وجوههم تشويقاً وتعظيماً ذاقوا من ألم الشوق وحرقة الفرقة ما عيل به صبرهم وتحقق موتهم وهو من أحوال المحبين ولا شيء أشق من هذا الصبر وأشد تحملاً واقْتَل، فإن أطاقه المحب كان خافياً وإن لم يطق كان فانياً فيه هالكاً، وفي هذا المقام قال الشبلي:

صابر الصبر فاستغاث به الصبــ ــر فصاح المحب بالصبر صبرا

أي: صابر الحبيب الصبر، فاستغاث به الصبر عند إشرافه على النفاد فصاح المحب بالصبر صبراً على النفاد والهلاك، فإن فيه النجاح والفلاح. والصبر بالله هو لأهل التمكين في مقام الاستقامة الذين أفناهم الله بالكلية وما ترك عليهم شيئاً من بقية الأنية والإثنينية ثم وهب لهم وجوداً من ذاته حتى قاموا به وفعلوا بصفاته وهو من أخلاق الله تعالى ليس لأحد فيه نصيب ولهذا أمره به. ثم بيّن أن ذلك الصبر الذي أمرت به ليس من سائر أقسام الصبر حتى يكون بنفسك أو بقلبك بل هو صبري لا تباشره إلا بي ولا تطيقه إلا بقوّتي، ولعدم وفاء قوته بهذا الصبر قال: "شيّبتني سورة هود" .
{ ولا تحزن عليهم } بالتلوين بظهور القلب بصفته لأن صاحب هذا الصبر يرى الأشياء بعين الحق فكل ما يصدر عنهم يراه فعل الله وكل صفة تظهر عليهم يراه تجلياً من تجلياته وينكر المنكر بحكمه لأن الله بصّره بأنوع التجليات القهرية واللطفية والغضبية والرضوية وعرّفه أحكامه وأمره بإنفاذ الأحكام في مواقعها. { ولا تك في ضيق هما يمكرون } لانشراح صدرك بي، فكن معهم كما تراني معهم سائراً بسيري قائماً بي وبأمري.
{ إنّ الله مع الذين اتّقوا } بقاياهم وأنياتهم بالاستهلاك في الوحدة والاستغراق في عين الجمع { واللذين هم مُحْسِنون } بشهود الوحدة في عين الكثرة،والطاعة في عين المعصية، والقيام بالأمر والنهي في مقام الاستقامة، وإبقاء حقوق التفاصيل في عين الجمع، فلا يحجبهم الفرق عن الجمع ولا الجمع عن الفرق، ويسعهم مراعاة الحق والخلق للرجوع إلى الكثرة بوجود القلب الحقانيّ.