التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً
٧٠
يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً
٧١
وَمَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً
٧٢
وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً
٧٣
وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً
٧٤
-الإسراء

تفسير القرآن

{ ولقد كرّمنا بني آدم } بالنطق والتمييز والعقل والمعرفة { وحملناهم في البرّ والبحر } أي: يسرنا لهم أسباب المعاش والمعاد بالسير في طلبها فيهما وتحصيلها { ورزقناهم من الطيبات } أي: المركبات التي لم ترزق غيرهم من المخلوقات { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا } أي: ما عدا الذوات المقدّسة من الملأ الأعلى، وأما أفضلية بعض الناس كالأنبياء على الملائكة المقرّبين فليست من جهة كونهم بني آدم فإنهم من تلك الحيثية لا يتجاوزون مقام العقل بل من جهة السرّ المودع فيهم المشار إليه بقوله: { إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة، الآية: 30] وهو ما أعدّ لذلك البعض من المعرفة الإلهية التامة بواسطة الجمعية التي فيه، أي: مقام الوحدة، وحينئذ ليس هو بهذا الاعتبار من بني آدم كما قيل:

وإني وإن كنت ابن آدم صورة فلي فيه معنى شاهد بأبوّتي

بل هو عين المكرّم المعروف كما قيل:

رأيت ربي بعين ربي فقال من أنت قلت أنت

وقد فني ابن آدم في هذا المقام وما بقي منه شيء وإلا فما للتراب وربّ الأرباب، أو { ولقد كرّمنا بني آدم } بالتقريب ومعرفة التوحيد وحملناهم في بر عالم الأجساد وبحر عالم الأرواح بتسييره فيهما لتركيبه منهما وإرقائه عنهما في طلب الكمال ورزقناهم من طيبات العلوم والمعارف، { وفضلناهم } على الجم الغفير { ممن خلقنا }، أي: جميع المخلوقات، على أن تكون من للبيان والمبالغة في تعظيمه بوصف المفضل عليهم بالكثرة وتنكير الوصف وتقديمه على الموصوف أي كثير، وأي كثير وهو جميع مخلوقاتنا لدلالة من على العموم { تفضيلاً } تاماً بيّناً.
{ يوم ندعو } إلى آخره، أي: نحضر { كل } طائفة من الأمم مع شاهدهم الذي يحضرهم ويتوجهون إليه من الكمال ويعرفونه سواء كان في صورة نبيّ آمنوا به كما ذكر في تفسير قوله:
{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [النساء، الآية: 41] أو إمام اقتدوا به أو دين أو كتاب أو ما شئت على أن تكون الباء بمعنى مع أو ننسبهم إلى إمامهم وندعوهم باسمه لكونه هو الغالب عليهم وعلى أمرهم المستعلي محبتهم إياه على سائر محباتهم { فمن أوتي كتابه بيمينه } أي: من جهة العقل الذي هو أقوى جانبيه وبعث في صورة السعداء { فأولئك يقرؤون كتابهم } دون غيرهم لاستعدادهم للقراءة والفهم لأن الذي أوتي كتابه بشماله، أي: من جهة النفس التي هي أضعف جانبيه لا يقدر على قراءة كتابه وإن كان مقروؤًا لذهاب عقله وفرط حيرته { ولا يظلمون } أي: لا ينقصون من صور أعمالهم وكمالاتهم وأخلاقهم شيئاً قليلاً.
{ ومن كان في هذه أعمى } عن الاهتداء إلى الحق { فهو في الآخرة } كذلك { وأضلّ سبيلاً } مما هنا لأن له في هذه الحياة آلات وأدوات وأسباباً يمكنه الاهتداء بها وهو في مقام الكسب باقي الاستعداد إن كان ولم يبق هناك شيء من ذلك.
{ وإن كادوا ليفتنونك } الخ، هو من باب التلوينات التي تحدث لأرباب القلوب بظهور النفس ولأرباب الشهود والفناء بوجود القلب، فإنه عليه السلام لفرط شغفه وحرصه على إيمانهم بوجود القلب كاد يميل إليهم في بعض مقترحاتهم ويرضى ببعض ما هو خلاف شريعته، ويضيف إلى الله ما ليس منه طلباً للمناسبة التي كان يتوقع أن تحدث بينه وبينهم بذلك فيحبوه كما قال: { وإذاً لاتّخذوك خليلاً } عسى أن يقبلوا قوله ويهتدوا به. واستمالة وتطييباً لقلوبهم عسى أن يلينوا وينزلوا عن شدّة إنكارهم فيرّق حجابهم وتتنوّر قلوبهم، فشدد وأقيم من عند الله، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: "كان خلقه القرآن" تعني أنه عليه الصلاة والسلام كلما ظهرت نفسه وهمّت بما ليس بفضيلة نبّه من عند الله وثبت بتنزيل آية تقوّمه وتردّه إلى الاستقامة حتى بلغ مقام التمكين، وهذا وأمثاله من قوله تعالى:
{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ } [الأنفال، الآية: 67]، وقوله: { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [التوبة، الآية: 43]، وقوله: { { وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } [الأحزاب، الآية: 37]، وقوله: { { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ } [عبس، الآية: 1] يدل على أنه كان أكثر سلوكه في الله بعد الوصول في زمان النبوة وزمان الوحي.