التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
١٢٧
رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
١٢٨
رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ
١٢٩
وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ
١٣٠
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
١٣١
وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ
١٣٢
أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـٰهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
١٣٣
-البقرة

تفسير القرآن

{ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت } قيل: إنّ الكعبة أنزلت من السماء في زمان آدم ولها بابان إلى المشرق والمغرب، فحجّ آدم عليه السلام من أرض الهند واستقبله الملائكة أربعين فرسخاً فطاف بالبيت ودخله. ثم رفعت في زمان طوفان نوح عليه السلام، ثم أنزلت مرة أخرى في زمان إبراهيم صلوات الله عليه، فزارها ورفع قواعدها وجعل بابيها باباً واحداً. وقيل: ثم تمخض أبو قبيس فانشق عن الحجر الأسود وكان ياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة نزل بها جبرائيل فخبئت فيه في زمان الطوفان إلى زمن إبراهيم عليه السلام، فوضعه إبراهيم مكانه، ثم اسودّ بملامسة النساء الحيض.
فنزولها في زمان آدم إشارة إلى ظهور القلب في زمانه بوجوده عليه. وكونه ذا بابين شرقيّ وغربيّ إشارة إلى ظهور علم المبدأ والمعاد، ومعرفة عالم النور، وعالم الظلمة في زمانه دون علم التوحيد. وقصده زيارتها من أرض الهند إشارة إلى توجهه بالتكوين والاعتدال من عالم الطبيعية الجسمانية المظلمة إلى مقام القلب، واستقبال الملائكة إشارة إلى تعلق القوى الحيوانية والنباتية بالبدن وظهور آثارها فيه قبل آثار القلب في الأربعين التي تكوّنت فيها بنيته وتخمرت طينته أو توجهه بالسير والسلوك من عالم النفس الظلماني إلى مقام القلب. واستقبال الملائكة تلقي القوى النفسانية والبدنية إياه بقبول الإذعان والأخلاق الجميلة والملكات الفاضلة والتمرّن فيها والتنقل في المقامات قبل وصوله إلى مقام القلب. وطوافه بالبيت إشارة إلى وصوله إلى مقام القلب وسلوكه فيه مع التلوين، ودخوله إشارة إلى تمكنه واستقامته فيه. ورفعه في زمان الطوفان إلى السماء إشارة إلى احتجاب الناس بغلبة الهوى وطوفان الجهل في زمان نوح عليه السلام عن مقام القلب. وبقاؤه في السماء الرابعة، أي: البيت المعمور الذي هو قلب العالم ونزوله مرة أخرى في زمان إبراهيم عليه السلام إشارة إلى اهتداء الناس في زمانه إلى مقام القلب بهدايته. ورفع إبراهيم قواعده وجعله ذا باب واحد إشارة إلى تلقي القلب بسلوكه عليه السلام من مقامه إلى مقام الروح الذي هو السر وارتفاع مراتبه ووصوله إلى مقام التوحيد، إذ هو أوّل من ظهر عليه التوحيد الذاتيّ كما قال عليه السلام:
{ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [الأنعام، الآية: 79]. والحجر الأسود إشارة إلى الروح. وتمخض أبي قبيس وانشقاقه عنه إشارة إلى ظهوره بالرياضة وتحرّك آلات البدن باستعمالها بالتفكر والتبعد في طلب ظهوره، ولهذا قيل: خبئت فيه، يعني: احتجبت بالبدن. واسوداده بملامسة النساء الحيض إشارة إلى اختفائه وتكدّره بغلبة القوى النفسانية على القلب واستيلائها عليه وتسويدها الوجه النورانيّ الذي يلي الروح منه. وكذا إسماعيل أيضاً كان من الموحدين لعطفه عليه في رفع قواعد البيت.
{ ربنا واجعلنا مسلمين لك } أي: لا تكلنا إلى أنفسنا فنسلم بأنفسنا بل بك وبجعلك { ربنا وابعث فيهم رسولاً } هو محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال عليه السلام:
"أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي" وقد رأت في المنام أن نوراً خرج منها فأضاءت لها قصور الشام.
{ ومن يرغب عن ملّة إبراهيم } أي: ملّة التوحيد { إلا من سفه نفسه } إلا من احتجب عن نور العقل بالكلية وبقي في مقام ظلمة نفسه. أي: سفه نفساً على التمييز أو في نفسه على انتزاع الخافض { ولقد اصطفيناه } أي: من كان من المحبوبين المرادين بالسابقة الأزلية فاخترناه حالة الفناء في التوحيد { وهو في الآخرة } أي: حالة البقاء بعد الفناء من أهل الاستقامة الصالحين لتدبير النظام وتكميل النوع { إذ قال له ربه أسلم } أي: وحد وأسلم ذاتك إلى الله، يعني: جعله في الأزل من أهل الصف الأول مسلماً موحداً مذعناً لربّ العالمين، فانياً فيه { ووصى بها } أي: بكلمة التوحيد { إبراهيم بنيه ويعقوب } بنيه تأسياً { يا بنيّ إن الله اصطفى لكم الدين } أي: دينه الذي يدين به الموحد، لا دين له غيره، ولا ذات، فدينه دين الله وذاته ذات الله { فلا تموتنّ } إلا على هذا الدين، أي: لا تموتنّ بالموت الطبيعي موت الجهل، بل كونوا ميتين بأنفسكم، أحياء بالله أبداً، فيدرككم موت البدن على هذه الحالة.