التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ نَجَّيْنَٰكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ
٤٩
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ فَأَنجَيْنَٰكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ
٥٠
-البقرة

تفسير القرآن

{ وإذ نَجيناكم من آلِ فِرعونَ } ظاهره وتفسيره على ما يفهم من تذكير النعمة لتهييج المحبة وباطنه وتأويله { وإذ نجيناكم من آل فرعون } النفس الأمارة المحجوبة بأنانيتها المستعلية على ملك الوجود ومصر مدينة البدن التي استعبدت هي وقواها التي هي الوهم والخيال والتخلية والغضب والشهوة والقوى الروحانية التي هي أبناء صفوة الله يعقوب الروح والقوى الطبيعية البدنية من الحواس الظاهرة والقوى النباتية.
{ يَسُومونَكم سُوءَ العَذَابِ } يكلفونكم المتاعب الصعبة والكدّ والأعمال الشاقّة في جمع المال وادّخاره بالحرص والأمل وترتيب الأقوات والملابس وغيرها مما يكدح فيه الحرّاص من أبناء الدنيا ويستعبدونكم في التفكر فيها والاهتمام بها وضبطها وتحصيل لذاتهم التي هي عذاب لمنعها إياكم عن لذاتكم. { يذبحونَ أبناءَكُم } التي هي تلك القوى الروحانية عن العاقلة النظرية، والعاقلة العملية اللتين هما عينا القلب النظرية اليمنى والعملية اليسرى، والفهم الذي هو سمع القلب، والسرّ الذي هو قلب القلب، والفكر والذكر { ويستحيونَ نِساءَكم } القوى الطبيعية المذكورة بمنع الطائفة الأولى عن أفعالها الخاصة بالقهر والاستيلاء وحجبها عن حياة نور الروح ومددها وإقدار الطائفة الثانية عن أفعالها وتمكينها.
{ وفي ذلِكُم } الإنجاء نعمة عظيمة { من ربكم } هي نعمة مطالعة صفات جلاله وجماله، أو في ذلكم التعذيب نقمة عظيمة من ربكم هي نقمة الاحتجاب والحرمان والبعد، إذ البلاء الذي هو الامتحان يحصل بهما. قال الله تعالى:
{ { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ } [الأعراف: 168].
{ وإذْ فرقنَا } بوجودكم { البَحرَ } أي البحر الأسود الزعاق الذي هو المادة الجسمانية لانفلاقها بوجودكم انفلاق الأرض من النبات { فأنْجَيناكُم } بالتجرّد منها { وأغْرَقنا آلَ فِرْعون } أي: القوى النفسانية فيها بملازمتها إياها وهلاكها بفسادها، { وأنْتم } تشاهدون ذلك. وعلى هذا يمكن أن يؤوّل بنو إسرائيل في أوّل الخطاب بتلك القوى الروحانية والنِعْمة التي أنعم بها عليهم هي التهدي إلى قبول الأنوار الفائضة عليها من عالم الروح وتلقي المعارف والحكم، وإيفاؤهم بالعهد، وإبرازهم ما ركز فيها بحسب الاستعداد الأول من الأدلة التوحيدية والمعاني الكلية الكامنة فيها بالتصفية ومزاولة ما يختص بها من الأفعال، وإيفاؤه بعهدهم إفاضة النور الكماليّ عليها عند قيامها بحق النور الاستعدادي بالتصفية واستعمال ما عندهم من المعاني. وإن كنتم رهبتم شيئاً فارهبوا احتجاب أنواري بزوال استعدادكم، وآمنوا أي: واقبلوا ما أفيض عليكم من الإشراقات النورية والسوانح الغيبية مصدّقاً لما في استعدادكم من النور الفطريّ، ولا تكوونوا في أوّل رتبة المحتجبين عن قبولها بالتوجه إلى الجهة السفلية ولا تستبدلوا بها لذات النفس ومقاصدها، ولا تخلطوا حق المعارف الروحية والأنوار القدسية بباطل المطالب الحسية والصفات النفسية، وتكتموا تلك الأنوار والمعارف بظهور هذه عليكم. وأقيموا وأديموا التوجه إلى حضرة الروح وامتثال أمره، وآتوا زكاة معلوماتكم التي هي أموالكم بتصفحها وتركيبها لتحرزوا بها ثواب النتائج واللوازم، وأنفقوها على فقرائكم الذين بحضرتكم من القوى البدنية الطبيعية ليعيشوا بها، ويكتسبوا بها الأخلاق الفاضلة والملكات الجميلة، وعلموها أبناء جنسكم ليكملوا بها، واركعوا واخضعوا لقبول الأوامر العقلية والأنوار الروحية والأعمال القلبية. أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم؟ أتسوسون ما تحتكم من القوى بالعبادات الجميلة والآداب الحسنة والترقي إلى مقامكم والتأدب بآدابكم وتنسون أنفسكم في التأدّب بين يدي الله بآداب الروحانيين والتمرّن في المراقبة، والتنوّر بأنوار الروح في مقام المشاهدة والترقي إلى مقامه عند الفناء في الوحدة، وأنتم تتلون كتاب المعقولات النازلة من ربّ الروح بواسطة ملك العقل إلى نبيّ القلب. أفلا تعقلون بالعقل المجرّد عن شوب الهوى والوهم؟ واستعينوا بالصبر على ما يظهر عليكم ويرد من سلطنة أنوار سلطان الروح وأحكامه وقهر تجليات العظموت والحضور مع الحق، وأن هذه الاستعانة لشاقّة إلا على الخاشعين، المرتاضين، المذعنين لانقياد أمر القلب والروح، المتيقنين بأنهم بحضرته وفي لقائه، وأنهم يرجعون إليه في قبول أنواره. وتفضيلهم على العالمين هو شرفهم على جميع ما في الإنسان من القوى.