التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ
٥٦
قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يٰمُوسَىٰ
٥٧
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى
٥٨
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى
٥٩
فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ
٦٠
قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ ٱفْتَرَىٰ
٦١
فَتَنَازَعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَىٰ
٦٢
قَالُوۤاْ إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلْمُثْلَىٰ
٦٣
-طه

تفسير القرآن

{ أريناه آياتنا } من الحجج والبينات الدالة على التجرّد عن المواد ووجود الأنوار { فكذب } لكونها مادة { وأبى } القبول لامتناع إدراكها للمجرّدات وأنكر إزعاجها عن وكرها البدني بقوله: { أجئتنا لتخرجنا من أرضنا } ونسب البرهان إلى السحر لقصورها عن إدراكه وعجزها عن قبوله وأغرى القوى التخيلية والوهمية على المعارضة والمجادلة وقلما أذعنت النفس للبرهان النير والحق البين بدون الرياضة والإماتة، وكلما أورد عليها حرّضت الوهم والتخيل على التشكيك والقدح. والموعد هو وقت تركيب الحجة وترتيب المقامات وذلك وقت زينة النفس الناطقة بالمدركات وحشر القوى العقلية والروحانية لاستحضار المعلومات والمخزونات { ضحىً } إشراق نور شمس العقل الفعال إذ هناك تعرض النفس عن قبولها ويجمع كيدها من أنواع المغالطات والوهميات ويقمعها القلب باليقينيات وإظهار أكاذيبها المفتريات. والتنازع الواقع بين القوى النفسانية هو عدم مسالمتها في طاعة القلب وانجذاب كل منها إلى لذته متمانعة متخالفة. وإسرارها النجوى استبطان الكل الدواعي المخالفة للقلب مع تخالفها في أنفسها. ونسبتها إلى السحر إشارة إلى عجزها عن إدراك معانيها وخفاء براهينها عليها. والطريق المثلى، أي: الفضلى عندها هي تحصيل اللذات الحسيّة والانهماك في الشهوات البدنية. وإلقاؤها أولاً إشارة إلى تقدّم الوهميات والخياليات في الوجود الإنساني على العقليات واليقينيات عند السلوك وإلا ما احتيج إلى البرهان القاطع والدليل الواضح وإلى أن الواجب على الداعي إلى الحق أولاً نقض الباطل ودفع الشبهة بالحجة ليزول الاعتقاد الفاسد ويتمكن استقرار الحق. والحبال والعصيّ هي المغالطات والسفسطات من الشبهة الجدلية التي تكاد تتمشى وتغلب على القلب لولا تأييد الحق بنور الروح والعقل وهو معنى قوله: { لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلأَعْلَىٰ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ } [طه، الآية:68 - 69] العاقلة النظرية من البرهان المعتمد عليه يفن مصنوعاتهم المزخرفة وأباطيلهم المموّهة، فتضمحلّ وتتلاشى. إنما صنعوا كيد تزوير ومكر لا حقيقة له لا ما صنعت كما زعموا، فألقي السحرة سجداً فانقادت حينئذ القوى الوهمية والخيالية والتخييلية والحسية عند ظهور عجزها والنفس الأمارة ثابتة في تفرعنها وعتوّها لعدم ارتياضها واعتيادها بمألوفاتها وترأسها على القوى وتجبرها، باقية على عنادها وشدّة شكيمتها. { ولأقطعنّ } إشارة إلى إبعادها وتخويفها للقوى عند إذعانها يمنع تصرّفاتها في المعايش وترك سعيها في تحصيل الملاذ والمشتهيات الجسمانية من جهة مخالفتها إياها بموافقة القلب. وصلبها في جذوع النخل: إيقافها بالإماتة عند الرياضة في حدّ القوى النباتية وإثباتها في مقارّها ومبادىء نشأتها من أعالي مراتب القوى النباتية دون التصرّف في سائر المراتب والاستعلاء على المناصب والاستيلاء في المكاسب، أو من الأعضاء التي هي معادنها ومظاهرها. وهذا التخويف على هذا التأويل من قبيل أحاديث النفس وهواجسها بسبب اللمات الشيطانية المثبطة عن المجاهدة لقوله تعالى: { إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } [آل عمران، الآية:175] ليفيد إعراضها عن مطاوعة القلب وقيامها بخدمتها وتسخرها لها ولو حمل على المباحثة الظاهرة المستفادة من قوله تعالى: { وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل، الآية:125] بعد التصديق بالظاهر والإيمان بالإعجاز الباهر لأجرى قوله: { ٱذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ } [طه، الآية:42] على ظاهره إلى قوله: { فَتَنَازَعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ }[طه، الآية:62] أي: تباحثوا فيما بينهم في السر، متنازعين فيما يعارضونه به من ضروب الجدل. وقيل في قوله: { إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ }[طه، الآية:63] مفلقان في البيان والفصاحة والاحتجاج لا يكاد يعارضهما أحد فيحجّهما.