التفاسير

< >
عرض

ٱتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ
٤٥
وَلاَ تُجَادِلُوۤاْ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
٤٦
-العنكبوت

تفسير القرآن

{ اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة } أي: فصّل ما أجمل فيك من كتاب العقل القرآني بسبب الوحي ونزول كتاب العلم الفرقاني، وأقم الصلاة المطلقة على ترتيب تفاصيل التلاوة والعلوم. ومعناه: اجمع بين الكمال العلميّ والعمل المطلق، فإن لك بحسب كل علم صلاة وكما أن العلوم إما نافعة تتعلق بالآداب والأعمال وإصلاح المعاش وهي علوم القوى من غيب الملكوت الأرضية، وإما شريفة تتعلق بالأخلاق والفضائل وإصلاح المعاد وهي علوم النفس من غيب الصدر والعقل العلمي، وإما كلية يقينية تتعلق بالصفات وهي على نوعين: عقلية نظرية وكشفية سريّة، وكلاهما من غيب القلب والسرّ. وإما حقيقية تتعلق بالتجليات والمشاهدات، وهي من غيب الروح، وإما ذوقية لدنية تتعلق بالعشقيات والمواصلات وهي من غيب الخفاء. وإما حقيّة من غيب الغيوب. وبحسب كل علم صلاة، فالأولى هي الصلاة البدنية بإقامة الأوضاع وأداء الأركان، والثانية صلاة النفس بالخضوع والخشوع والانقياد والطمأنينة بين الخوف والرجاء، والثالثة صلاة القلب بالحضور والمراقبة، والرابعة صلاة السرّ بالمناجاة والمكالمة، والخامسة صلاة الروح بالمشاهدة والمعاينة، والسادسة صلاة الخفاء بالمناغاة والملاطفة، ولا صلاة في المقام السابع لأنه مقام الفناء والمحبة الصرفة الفناء في عين الوحدة. وكما كان نهاية الصلاة الظاهرة وانقطاعها بظهور الموت الذي هو ظاهر اليقين وصورته كما قيل في تفسير قوله تعالى: { وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } [الحجر، الآية:99]، فكذلك انتهاء الصلاة الحقيقية بالفناء المطلق الذي هو حق اليقين. وأما في مقام البقاء بعد الفناء فيتجدّد جميع الصلوات الست مع سابعة وهي صلاة الحق بالمحبة والتفريد.
{ إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمُنْكر } فالصلاة البدنية تنهى عن المعاصي والسيئات الشرعية، وصلاة النفس تنهى عن الرذائل والأخلاق الرديئة والهيئات المظلمة، وصلاة القلب تنهى عن الفضول والغفلة، وصلاة السرّ تنهى عن الالتفات إلى الغير والغيبة، كما قال عليه السلام:
"لو علم المصلي من يناجي ما التفت" . وصلاة الروح عن الطغيان بظهور القلب بالصفات كنهي صلاة القلب عن ظهور النفس بها، وصلاة الخفاء عن الاثنينية وظهور الأنائية، وصلاة الذات تنهى عن ظهور البقية بالتلوين وحصول المخالفة في التوحيد { ولذكر الله أكبر } الذي هو ذكر الذات في مقام الفناء المحض، وصلاة الحق عند التمكين في مقام البقاء أكبر من جميع الأذكار والصلوات { والله يعلم ما تصنعون } في جميع المقامات والأحوال والصلوات.
{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن } إنما منع المجادلة مع أهل الكتاب إلا بالطريقة التي هي أحسن لأنهم ليسوا محجوبين عن الحق بل عن الدين، فهم أهل استعداد ولطف لا أهل خذلان وقهر. وإنما ضلّوا عن مقصدهم الذي هو الحق في الطريق لموانع وعادات وظواهر فوجب في الحكمة مرافقتهم في المقصد الذي هو التوحيد كما قال: { وإلهنا وإلهكم واحد } ومرافقتهم في الطريق ما استقام منها ووافق طريق الحق، لا ما اعوّج وانحرف عن المقصد كالانقياد والاستسلام للمعبود بالحق الواحد المطلق كما قال: { ونحن له مُسْلِمون } ليتحقق عندهم أنهم على الحق متوجهون إلى مقصدهم سالكون لسبيله، فتطمئن قلوبهم. وملاطفتهم في بيان كيفية سلوك الطريق بتصويب ما هو حق مما هو عليه وتبصير ما هو باطل لاحتجابهم عنه بالعبادة، كقوله: { آمنّا بالذي أنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون } لمناسبتهم ومشراكتهم إياهم في اللطف، فيستأنسوا بهم ويقبلوا قولهم ويهتدوا بهداهم إلا الذي ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون فبطل استعدادهم وحجبوا عن ربّهم، وهم الذين ظلموا منهم على أنفسهم بإبطال استعداداتهم ونقص حقوقها من كمالاتها بتكديرها وتسويدها، ومنعها عن القبول بكثرة ارتكاب الفضول فإنهم أهل القهر لا يؤثر فيهم إلا القهر ولا تنجع فيهم الملاطفة للمضادّة بين الوصفين.