التفاسير

< >
عرض

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ
٣٨
فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
٣٩
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ
٤٠
قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ
٤١
-آل عمران

تفسير القرآن

{ هنالك دعا زكريا ربّه } كان زكريا شيخاً هرماً، وكان مقدّماً للناس، إماماً، طلب من ربّه ولداً حقيقياً يقوم مقامه في تربية الناس وهدايتهم كما أشار إليه في سورة (كهيعص) فوهب له يحيى من صلبه بالقدرة، بعدما أمر باعتكاف ثلاثة أيام ولك التأويل بالتطبيق على أحوالك وتفاصيل وجودك كما علمت، وهو أنّ الطبيعة الجسمانية، أي: القوة البدنية. امرأة عمران الروح نذرت ما في قوّتها من النفس المطمئنة لله تعالى بانقيادها لأمر الحق ومطاوعتها له، فوضعت أنثى النفس فكفلها الله، زكريا الفكر، بعدما تقبلها لكونها زكيّة، قدسيّة، فكلما دخل عليها زكريا الفكر محراب الدماغ وجد عندها رزقاً من المعاني الحدسيّة التي انكشفت عليها بصفائها من غير امتياز الفكر إيّاها. فهنالك دعا زكريا الفكر، تركيب تلك المعاني واستوهب من الله ولداً طيباً مقدّساً عن لوث الطبيعية، فسمع الله دعاءه، أي: أجاب، فنادته ملائكة القوى الروحانية وهو قائم بأمره في تركيب المعلومات، يناجي ربّه باستنزال الأنوار، ويتقرّب إليه بالتوجه إلى عالم القدس في محراب الدماغ.
{ إنّ الله يبشرك بيحيى } العقل بالفعل { مصدّقاً } بعيسى القلب، مؤمناً به، وهو كلمة من الله لتقدّسه عن عالم الأجرام والتولّد عن الموادّ { وسيداً } لجميع أصناف القوى { وحصوراً } مانعاً نفسه عن مباشرة الطبيعة الجسمانية وملابسة طبائع القوى البدنية { ونبيّاً } بالإخبار عن المعارف والحقائق الكلية، وتعليم الأخلاق الجميلة، والتدابير السديدة بأمر الحق { من الصالحين }. ومن جملة المفارقات والمجرّدات التي تصلح بأفعالها أن تكون من مقرّبي حضرة الله تعالى بعد أن بلغ الفكر كبر منتهى طوره ولم يكن منتهياً إلى إدراك الحقائق القدسية، والمعارف الكلية. وكانت امرأته التي هي طبيعة الروح النفسانية لأنها محل تصرّف الفكر عاقراً بالنور المجرّد.
وعلامة ذلك، أي: علامة حصول النور المجرّد وظهوره من النفس الزكيّة، إمساكه عن مكالمة القوى البدنية في تحصيل مطالبهم ومآربهم ومخالطتهم في فضول لذّاتهم وشهواتهم ثلاثة أيام، كلّ يوم عقد تامّ من أطوار عمره عشر سنين، إلا أن يرمز إليهم بإشارة خفيّة، ويأمرهم بتسبيحهم المخصوص بكل واحد منهم من غير أن يدنو منهم في مقاصدهم، وأن يشتغل في الأيام الثلاثة التي مداها ثلاثون سنة من ابتداء سنّ التمييز، الذي هو العشر الأول، بذكر ربّه في محراب الدماغ والتسبيح المخصوص به دائماً.