التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً
٩٧
إِلاَّ ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً
٩٨
فَأُوْلَـٰئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً
٩٩
-النساء

تفسير القرآن

{ إن الذين توفاهم الملائكة } إلى آخره، التوفي هو: استيفاء الروح من البدن بقبضها عنه، وهو على ثلاثة أوجه: توفي الملائكة، وتوفي ملك الموت، وتوفي الله. أما توفي الملائكة فهو لأصحاب النفوس وهم إما سعداء أهل الخير والصفات الحميدة والأخلاق الحسنة من الصالحين المتّقين { { ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [النحل، الآية: 32] فمعادهم إلى جنة الأفعال. وإما أشقياء أهل الشرّ والصفات الرديئة والأخلاق السيئة فلا يقبض أرواحهم إلا القوى الملكوتية التي هي للعالم بمثابة قواهم التي هم في مقامها، محتجبون بصفات النفس ولذّات القوى الخيالية والوهمية والسبعية والبهيمية من الكافرين: { { ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِم } [النحل، الآية: 28] فمعادهم إلى النار. وأما توفي ملك الموت فهو لأرباب القلوب الذين برزوا عن حجاب النفس إلى مقام القلب، ورجعوا إلى الفطرة، فتنوّروا بنورها، فتقْبض أرواحهم النفس الناطقة الكلية التي هي قلب العالم باتصالهم بها، هذا إذا قبض أرواحهم ملك الموت بنفسه، أما إذا قبض بأعوانه وقواهم فهم الفريق الأول. وقد يقبض بنفسه ويذرهم في ملكوت العذاب حتى يحاسبوا ويعاقبوا بحسب رذائلهم ويتخلصوا، وذلك للكمال العلميّ والنقصان العلميّ كما خلص من الجهل والشرك وتحلّى بالعلم والتوحيد، ولكن تراكمت على قلبه الهيئات المظلمة والملكات الرديئة بسبب الأعمال السيئة والأخلاق الذميمة. وللعلم بالتوحيد والجهل بالمعاد كالموحد المنكر للجزاء، فينهمك في المعاصي كما قال تعالى: { { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُم } [السجدة، الآية: 11]. وأما توفي الله تعالى، فهو للموحدين الذين عرجوا عن مقام القلب إلى محل الشهود فلم يبق بينهم وبين ربّهم حجاب، فهو يتولى قبض أرواحهم بنفسه ويحشرهم إلى نفسه { { يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } [مريم، الآية: 85]، كما قال تعالى: { { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ موْتِـهَا } [الزمر: 42].
{ ظالِمي أنْفسهم } بمنعها عن حقوقها التي اقتضتها استعداداتهم من الكمالات المودعة فيها { فِيمَ كُنْتم } حيث قصرتم في السعي لما قدرتم وفرّطتم في جنب الله، وقصرتم عن بلوغ كمالكم الذي هيئ لكم وندبتم إليه { قالوا كنا مُسْتَضْعَفِين } في أرض الاستعداد الذي جبلنا عليه باستيلاء قوى النفس الأمّارة وغلبة سلطان الهوى بشيطان الوهم، أسرونا في قيودهم، وجبرونا على دينهم، وأكرهونا على كفرهم. { قالوا ألم تكن أرض الله واسعة } ألم تكن سعة استعدادكم بحيث تهاجروا فيها من مبدأ فطرتكم خطوات يسيرة، بحيث إذا ارتفعت عنكم بعض الحجب انطلقتم عن أسر القوى وتخلصتم عن قيود الهوى، وتقوّيتم بإمداد أعوانكم القوى الروحانية، ونصرتم بأنوار القلب، فخرجتم عن القرية، الظالم أهلها، التي هي مدينة النفس إلى بلد القلب الطيبة، فتداركتكم رحمة ربكم الغفور { فأولئِكَ مأوَاهُم جهنم } نفوسهم الشديدة التوقان مع حصول الحرمان { وساءت مصِيراً إلا المُسْتضعفين من الرجَال } أي: أقوياء الاستعداد الذين قويت قواهم الشهوية والغضبية مع قوّة استعدادهم فلم يقدروا على قمعها في سلوك طريق الحق ولم يذهبوا لقواهم الوهمية والخيالية، فيبطلوا استعداداتهم بالعقائد الفاسدة فبقوا في أسر قواهم البدنية مع تنوّر استعدادهم بنور العلم وعجزهم عن السلوك برفع القيود { والنساء } أي: القاصرين الاستعداد عن درك الكمال العلمي، وسلوك طريق التحقيق، الضعفاء القوى والأحلام، الذين قال في حقهم: "أكثر أهل الجنة البله". { والوِلْدان } أي: الناقصين القاصرين عن بلوغ درجة الكمال لغيرة تلحقهم من قبل صفات النفس { لا يستطيعون حيلة } لعدم قدرتهم وعجزهم عن كسر صفات النفس وقمع الهوى بالرياضة { ولا يَهْتَدون سبيلاً } لعدم علمهم بكيفية السلوك وحرمانهم عن نور الهداية الشرعية { فأولئِكَ عسى الله أنْ يَعْفو عَنهم } بمحو تلك الهيئات المظلمة لعدم رسوخها وسلامة عقائدهم { وكان الله عفوّاً } العفو عن الذنوب ما دامت الفطرة لم تتغير { غَفُوراً } يستر بنور صفاته صفات نفوسهم.