التفاسير

< >
عرض

وَلِكُلٍّ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَٰلَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
١٩
وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ
٢٠
وَٱذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِٱلأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ ٱلنُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنَّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
٢١
قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ
٢٢
قَالَ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِندَ ٱللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ
٢٣
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ
٢٤
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ
٢٥
وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
٢٦
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلْقُرَىٰ وَصَرَّفْنَا ٱلآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
٢٧
فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٢٨
-الأحقاف

تفسير القرآن

{ ولكل درجات } لما ذكر السابقين وعقبهم بذكر من يقابلهم من المطرودين الذين حقّ عليهم القول وبين أنّ الفريق الأول في عداد السعداء والفريق الثاني من جملة الأشقياء. تناول الكلام الأصناف السبعة المذكورة في أول الكتاب للتصريح بذكر الصنفين اللذين هما الأصل في الإيمان والكفر، والتعريض بذكر الخمسة الباقية فقال: { ولكل درجاتٌ مما عملوا } أي: ولكل صنف من أصناف الناس درجات من جزاء أعمالهم من أعلى عليين إلى أسفل سافلين، وغلب الدرجات على الدركات بل لكل أحد من كل صنف رتبة ومقام وموقع قدم من إحدى الجنان أو طبقات النيران.
{ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } أنكر عليهم إذهاب جميع الحظوظ في لذات الدنيا لأن لكل أحد بحسب استعداده الأول كمالاً ونقصاً يقابله، وبحسب وقت تكوّنه في هذا العالم سعادة عاجلة وشقاوة تقابلها فله بحسب كل واحدة من النشأتين طيبات وحظوظ تناسب كلا كماليه، فمن أقبل بوجهه على طيبات الدنيا وحظوظها والاستمتاع بها وأعرض بقلبه عن طيبات الأخرى ولذاتها حرم الثانية أصلاً لانغماسه في الأمور الظلمانية واحتجاجه عن المطالب النورانية، كما قال تعالى:
{ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } [البقرة، الآية:200]، وذلك معنى قوله: { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } لأن حظوظ الأخروية التي تقتضيها هويته ذهب في هذه، فكان ما زاد في النهار نقص من الليل. وأما من أقبل بوجهه إلى الأخرى وتنزّه عن هذه بالزهد والتقوى ورغب في المعارف الحقيقية والحقائق الإلهية واللذات العلوية والأنوار القدسية التي هي الطيبات بالحقيقة فقد أوتي منها حظه ولم ينقص من حظوظه العاجلة على قياس الأول بل وفر منها نصيبه كما قال: { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [الشورى، الآية:20] وذلك لأن الاستغراق في عالم القدس والتوجه إلى جناب الحق يورث النفس قوة وقدرة تؤثر بها في عالم الحسّ، فكيف إذا اتصلت بمنبع القوى والقدر. أما ترى أن عالم الملكوت مؤثر في عالم الملك متصرّف فيه، قاهر له بإذن الله تعالى؟، وتسخيره والانهماك في عالم الحسْ يخمد قوة الفطرة ويطفىء نور القلب فلا تبقى له قدرة ولا قوة ولا تأثير في شيء، وكيف وقد تأثرت عمّا من شأنه التأثر المحض وتسخرت لما من شأنه التسخر الصرف والانفعال المطلق؟، ولهذا قيل: الدنيا كالظل تتبع من أعرض عنها وتفوت من أقبل إليها. وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: "من أقبل إليها فاتته ومن أعرض عنها أتته".
{ فاليوم تجزون عذاب الهون } أي: الذلة والصغار لملازمتكم بالطبع للجهة السفلية وتوجهكم بالعشق إلى المطالب الدنية، فأنتم اخترتم الدناءة والانقهار بالتجبر والاستكبار وذلك معنى قوله: { بما كُنْتم تَسْتَكبرون } أي: في مقام النفس باستيلاء القوة الغضبية التي شأنها الاستكبار { في الأرض بغير الحق } إذ لو تجرّدوا عن الهيئات الغضبية والشهوية، وترفعوا عن الصفات النفسية ونضوا جلابيب الأنية والأنائية لاستكبروا بالحق في السماء والأرض ولكان تكبرهم كبرياء الله كما قال الصادق عليه السلام لمن قال له: فيك كل فضيلة وكمال إلا أنك متكبرّ، فقال: "لا والله، بل انخلعت عن كبري فخلع عليّ كبرياء الله" أو ما هذا معناه، فهذا هو التكبر بالحق { وبما كنتم تَفْسقون } باستيلاء القوة الشهوانية التي خاصيتها الفسق والفساد.