التفاسير

< >
عرض

قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَـٰكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ
٢٧
قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ
٢٨
مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ
٢٩
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ
٣٠

تفسير القرآن

{ قال قرينه ربّنا ما أطغيته } هذه المقاولات كلها معنوية مثلت على سبيل التخييل والتصوير لاستحكام المعنى في القلب عند ارتسام مثاله في الخيال، فادعاء الكافر الإطغاء على الشيطان وإنكار الشيطان إياه عبارة عن التنازع والتجاذب الواقع بين قوتيه الوهمية والعقلية، بل بين كل اثنتين متضادتين من قواه كالغضبية والشهوية مثلاً، ولهذا قال: { لا تختصموا }. ولما كان الأمران في وجوده هما العقلية والوهمية كان أصل التخاصم بينهما وكذا يقع التخاصم بين كل متحاورين متخاوضين في أمر لتوقع نفع أو لذة يتوافقان ما دام مطلوبهما حاصلاً، فإذا حرما أو وقعا بسعيهما في خسران وعذاب، تدارءا أو نسب كل منهما التسبب في ذلك إلى الآخر لاحتجابهما عن التوحيد وتبرىء كل منهما عن ذنبه لمحبة نفسه، ولذلك قال حارثة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: "ورأيت أهل لنار يتعاورون". وصوّب عليه السلام قوله وقول الشيطان: { ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيدٍ }، كقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [ق، الآية:22] لأنه لو لم يكن في ضلال عن طريق التوحيد بعيد عن الفطرة الأصلية بالتوجه إلى الجهة السفلية والتغشي بالغواشي المظلمة الطبيعية لم يقبل وسوسة الشيطان وقبل إلهام الملك، فالذنب إنما يكون عليه بالاحتجاب عن نور الفطرة وكتساب الجنسية مع الشيطان في الظلمة، والنهي عن الاختصام ليس المراد به انتهاؤهما بل عدم فائدته والاستماع إليه كأنه قال: لا اختصام مسموع عندي.
وقد ثبت وصح تقديم الوعيد حيث أمكن انتفاعكم به لسلامة الآلات وبقاء الاستعداد، فلم تنتفعوا به ولم ترفعوا لذلك رأساً حتى ترسخت الهيئات المظلمةفي نفوسكم ورانت على قلوبكم وتحقق الحجاب وحق القول بالعذاب، فـ{ ما يبدّل القول لدي } حينئذ لوجوب العذاب حال وقوعه { وما أنا بظلاّم } حيث وهبت الاستعداد وأنبأت على الكمال المناسب له وهديتكم إلى طريق اكستابه، بل أنتم الظلامون أنفسكم باكتساب ما ينافيه وإضاعة الاستعداد بوضع النور في الظلمة واستبدال ما يفنى بما يبقى.
{ يوم نقول لجهنم هل امتلأت } أي: يوم يتكثر أهل النار حتى تستبعد الزيادة عليهم ولا تنتقص سعتها بهم ولا يسكن كلبها. وفي الحديث:
"لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟! حتى يضع ربّ العزّة فيها قدمه، فتقول: قط قط بعزتك وكرمك" ، أي: لا يزال الخلق يميلون إلى الطبيعة بالشهوة والحرص والطبيعة باقية على حالها، جاذبة لما يناسبها، قابلة لصورها الملاءمة لها، ملقية لما قبلت إلى أسفل الدركات إلى ما لا يتناهى حتى يصل إليها أثر نور الكمال الوارد على القلب فتنور به وتنتهي عن فعلها. وعبر عن تشعشع النور الإلهي من القلب على النفس بقدم ربّ العزة القوي على قهرها ومنعها عن فعلها وإجبارها على موافقة القلب، فتقول: قطني، قطني.