التفاسير

< >
عرض

وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
٥١
وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ
٥٢
وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوۤاْ أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِٱلشَّٰكِرِينَ
٥٣
-الأنعام

تفسير القرآن

{ وأنذر به الذين يخافون } أي: أنذر بما أوحي إليك المستعدّين الذين هم أهل الخوف والرجاء، وأعرض عن الذين قست قلوبهم فإنه لا ينجع فيهم كما قال في أوّل الكتاب: { { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة، الآية: 2]. { أن يُحْشَروا إلى ربّهم ليس لهم من دونه وليّ ولا شفيع } أي: يعلمون بصفاء استعدادهم أنه لا بد من الرجوع إلى الله، فيخافون أن يحشروا إليه في حال كونهم محجوبين عنه بحجب صفاتهم وأفعالهم لا وليّ ينصرهم غير الله فينقذهم من ذلّة البعد وعذاب الحرمان، ولا شفيع يشفع لهم فيقرّبهم منه، ويكرّمهم لفناء الذوات والقدر كلها في الله، وقهره إياهم، كما قال تعالى: { { يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر، الآية: 16]، فيتعظون بسماعهم له ويحدث فيهم الرجاء فيشمرون في السلوك بالجدّ والاجتهاد { لعلهم يتّقون } لكي يحذروا حجب افعالهم وصفاتهم وذواتهم، ويتجرّدوا عنها بالمحو والفناء في الله، ويتجه أن يكون الوليّ القلب، والشفيع الروح، أي: لم يصلوا إلى مقام القلب الذي هو وليّ النفس فينقذها من العذاب وينصرها من الحرمان، ولا إلى مقام الروح فتشفع لهم بإمداد مدد القرب لها واستمدادها من الله وتتوسل بينهم وبين الله.
{ ولا تَطْرد الذين يدعون } أي: لا تزجرهم به، وهم أهل الوحدة الكاملون الواصلون، فإن الإنذار كما لا ينجع في الذين قست قلوبهم لا ينفع في الذين طاشت قلوبهم في الله وتلاشت { ربّهم بالغداة والعشيّ } أي: يخصونه بالعبادة دائماً بحضور القلب وشهود الروح وتوجه السرّ إليه، لا يريدون بالعبادة إلا ذاته بالمحبة الأزلية لا يجعلون عبادتهم معللة بغرض من توقع ثواب جنة أو خوف عقاب أو نقمة، ولا يريدونه بمحبة الصفات فتتغير إرادتهم باختلاف تجلياتها ولا يستحلون توسيط ذاته في مقصد أو مطلب بل شاهدوا فناء الوسائط والوسائل فيه ولم يبق في شهودهم شيء يقع نظرهم عليه حتى ذواتهم { ما عليك من حِسَابهم } فيما يعملون من شيء، أي: لا واسطة بينهم وبين ربّهم من ملك أو نبيّ فلست من دعوتهم إلى طاعة أو إلى جهاد أو إلى غير ذلك في شيء، فحسابهم على الله إذ عملهم ليس إلا بالله وفي الله { وما من حسابك عليهم من شيء } أي: لا يخوضون في أمور دعوتك بنصر وإعانة للإسلام ولا بدفع وقمع للكفر لاشتغالهم بالله عما سواه ودوام حضورهم كما قال تعالى:
{ { ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } [المعارج، الآية: 23] لا يعنيهم شأن من أمرك ونبوّتك { فتطردهم } عما هم عليه من دوام الحضور بإنهاضهم لشغل ديني أو مصلحة أو تشوّش وقتهم وجمعيتهم { فتكون من الظالمين } { وكذلك فتنّا } أي: مثل ذلك الفتن والابتلاء العظيم فتنّا { بعضهم } وهم المحجوبون بالبعض، فإن المحجوبين لما لم يروا منهم إلا صورتهم وسوء حالهم في الظاهر وفقرهم ومسكنتهم، ولم يروا قدرهم ومرتبتهم وحسن حالهم في الباطن، استحقروهم وازدرتهم أعينهم بالنسبة إلى ما هم فيه من المال والجاه والتنعم وخفض العيش فقالوا فيهم:
{ أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا } بالهداية استخفافاً وهم والله الأطيبون عيشاً، الأرفعون حالاً ومنزلاً، الأعظمون قدراً ورتبة عند الله وعند من يعرفهم كما قال نوح عليه السلام:
{ { وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِيۤ أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيْراً } [هود، الآية: 31] بل الخير كل الخير ما آتاهم الله { أليس الله بأعلم بالشاكرين } الذين يشكرونه بالحقيقة باستعمال نعمة وجودهم وصفاتهم وجوارحهم وما يقوم به من أرزاقهم ومعايشهم في طاعة الله فشكروه بإزاء النعمة الخارجية بالعبادة وتصوّرها من المنعم وصرفها في مراضي الله، وبإزاء نعمة الجوارح باستعمالها في عبادته وسلوك طريقه وتحصيل معرفته ومعرفة صفاته، وبإزاء نعمة الصفات بمحوها في الله والاعتراف بالعجز عن معرفته وشكره وعبادته، وبإزاء نعمة الوجود بالفناء في عين الشهود حتى شكر الله سعيهم بالوجود الموهوب الحقاني، وعلمهم أنه الشاكر المشكور لنفسه بنفسه، لا يقدر على شكره أحد إلا هو، فقالوا: سبحانك ما عرفناك حق معرفتك، سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، وذلك هو علمه بشكرهم وجزاؤه منه.