{والذين كذّبوا بآياتنا ولقاء الآخرة} أي: ستروا بصفاتهم صفاتنا وبأفعالهم أفعالنا فوقفوا مع الآثار وعموا عن لقاء الآخرة وجنة النفوس والأفعال {حبطت أعمالهم} ولو كان التكذيب بالصفات مجرداً عن التكذيب بلقاء الآخرة لما حبطت أعمالهم، وإن عذبوا حيناً بنوع من العذاب {سبعين رجلاً} من أشرافهم ونجبائهم أهل الاستعداد وصفاء النفس والإرادة والطلب والسلوك وهم المصعوقون في قوله تعالى: { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ } [الذاريات، الآية: 44].
{فلما أخذتهم الرجفة} أي: رجفة جبل البدن التي هي من مبادئ صعقة الفناء عند طيران بوارق الأنوار وظهور طوالع تجليات الصفات من اقشعرار الجسد وتأثره وارتعاده بها، ولهذا قال موسى عليه السلام عندها: {رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي} إذ لا قول لموسى عليه السلام عند الصعقة ولا لهم لفنائهم عندها، وقوله عليه السلام: {ربّ لو شئت}، كلمة ضجر وفقدان صبر من غلبة الشوق عند ألم الفراق، كما قال محمد صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحالة: "ليت أمي لم تَلدني، وكذا ليت ربّ محمد لم يخلق محمداً" ، وهمّ بإلقاء نفسه عن الجبل. ولو هذه للتمني. {أتُهلِكنا} بطول الحجاب وعذاب الحرمان وألم الفراق {بما فعل السفهاء منّا} من عبادة عجل هوى النفس والاحتجاب بصفاتها أو بما صدر منا حالة السفه قبل التيقظ والاستبصار وإرادة السلوك وظهور نور البصيرة والاعتبار من الوقوف مع النفس وصفاتها {إن هي إلا فتنتك} أي: ما هذا الابتلاء بصفات النفس وعبادة الهوى إلا ابتلاؤك لا مدخل فيها لغيرك {تضلّ من تشاء} من أهل الحجب والشقاوة والجهل والعمى {وتهدي من تشاء} من أهل السعادة والعناية والعلم والهدى، قالها في مقام تجلي الأفعال. {أنت} متولي أمورنا القائم بها {فاغفر لنا} ذنوب صفاتنا وذواتنا كما غفرت لنا ذنوب أفعالنا {وارحمنا} بإفاضة أنوار شهودك ورفع حجاب الأينية بوجودك {وأنت خير الغافرين} بالمغفرة التامة.
{واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة} العدالة والاستقامة بالبقاء بعد الفناء {وفي الآخرة حسنة} المشاهدة والزيادة {إنّا هدْنَا} رجعنا {إليك} عن ذنوب وجودنا {قال عذابي} أي: عذاب الشوق المخصوص بي الحاصل من جهتي، وإن كان أليماً لشدّة ألم الفراق، لكنه أمر عزيز خطير {أُصِيب به من أشاء} من أهل العناية من عبادي الخاصة بي {ورحمتي وسعت كل شيء} لا تختص بأحد دون أحد غيره وشيء دون شيء، ففي هذا العذاب رحمة لا يبلغ كنهها ولا يقدر قدرها من رحمة لذة الوصول التي قال فيها: { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [السجدة، الآية: 17] مع كونه لذيذاً لا يقاس بلذّته لذّة، كما قال أحدهم:
وكل لذيذ قد نلت منه سوى ملذوذ وجدي بالعذاب
ولعمري إنّ هذا العذاب أعزّ من الكبريت الأحمر. وأما الرحمة فلا يخلو من حظ منها أحد {فَسَأكتُبها} تامة كاملة رحيمية كتبة خاصة {للذين يتّقون} الحجب كلها ويفيضون مما رزقوا من الأموال والأخلاق والعلوم والأحوال على مستحقيها {والذين هم} بجميع صفاتنا يتصفون وهم {الذين يتبعون الرسول النبيّ الأميّ} في آخر الزمان، أي: المحمديون الذين اتّبعوا في التقوى وصفه بقوله تعالى له: { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [الأنفال، الآية: 17]، وبقوله تعالى: { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } [النجم، الآية: 3]، وقوله تعالى: { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } [النجم، الآية: 17]. وفي إيتاء الزكاة قوله تعالى: { وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [الضحى، الآيات: 10-11]، وفي الإيمان بالآيات قوله صلى الله عليه وسلم: "أوتيت جوامع الكِلَم، وبُعِثت لأتمم مكارم الأخلاق" .