التفاسير

< >
عرض

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً
١
يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً
٢
-الجن

تفسير القرآن

قد مرّ أن في الوجود نفوساً أرضية قوية لا في غلظ النفوس السبعية والبهيمية وكثافتها وقلة إدراكها ولا على هيئات النفوس الإنسانية واستعداداتها ليلزم تعلقها بالأجرام الكثيفة الغالب عليها الأرضية ولا في صفاء النفوس المجرّدة ولطافتها لتتصل بالعالم العلوي وتتجرّد أو تتعلق ببعض الأجرام السماوية متعلقة بأجرام عنصرية لطيفة غلبت عليها الهوائية أو النارية أو الدخانية على اختلاف أحوالها. سماها بعض الحكماء: الصور المعلقة، ولها علوم وإدراكات من جنس علومنا وإدراكاتنا. ولما كانت قريبة بالطبع إلى الملكوت السماوية أمكنها أن تتلقى من عالمها بعض الغيب فلا تستبعد أن ترتقي إلى أفق السماء فتسترق السمع من كلام الملائكة أي: النفوس المجرّدة، ولما كانت أرضية ضعيفة بالنسبة إلى القوى السماوية تأثرت بتأثير تلك القوى فرجمت بتأثيرها عن بلوغ شأوها وإدراك مداها من العلوم، ولا تنكر أن تشتعل أجرامها الدخانية بأشعة الكواكب فتحترق وتهلك أو تنزجر من الارتقاء إلى الأفق السماوي فتتسفل، فإنها أمور ليست بخارجة عن الإمكان، وقد أخبر عنها أهل الكشف والعيان الصادقون من الأنبياء والأولياء خصوصاً أكملهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وإن شئت التطبيق، فاعلم: أن القلب إذا استعدّ لتلقي الوحي وكلام الغيب استمع إليه القوى النفسانية من المتخيلة والوهم والفكر والعاقلة النظرية والعملية وجميع المدركات الباطنة التي هي جنّ الوجود الإنساني، ولما لم يكن الكلام الإلهي الوارد على القلب بواسطة روح القدس من جنس الكلام المصنوع المتلقف بالفكر والتخيل أو المستنتج من القياسات العقلية والمقدّمات الوهمية والتخيلية، قالوا: { إنّا سمعنا قرآناً عجباً * يهدي إلى الرشد } أي: الصواب وذلك هو تأثرها بنور الروح وانتعاشها بمعاني الوحي وتنوّرها بنوره وتأثيرها في سائر القوى من الغضبية والشهوية وجميع القوى البدنية { فآمنا به } تنوّرنا بنوره واهتدينا إلى جناب القدس { ولن نُشْرك بربّنا أحداً } أي: لن تمثله بمثال من جنس مدركاتنا فنشبه به غيره، بل نشايع السرّ في التوجه إلى جناب الوحدة، ولن ننزوي إلى عالم الكثرة لنعبد الشهوات بهوى النفس وتحصيل مطالبها من عالم الرجس فنعبد غيره.