التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ
٦٣
-يونس

روح البيان في تفسير القرآن

{ الذين آمنوا وكانوا يتقون } استئناف مبنى على السؤال ومحل الموصول لرفع على انه خبر لمبتدأ محذوف كأنه قيل من اولئك وما سبب فوزهم بتلك الكرامة فقيل هم الذين جمعوا بين الايمان بكل ما جاء من عند الله والتقوى المفضيين الى كل خير المنحيين عن كل شر.
قال شيخنا العلامة ابقاه الله بالسلامة وكانوا يتقون الله تعالى من صدور سيآت الاعمال والاخلاق فى مرتبة الشريعة والطريقة ومن ظهور الغفلات والتلوينات فى مرتبة المعرفة والحقيقة لانهم يصلحون طبائعهم بالشريعة وانفسهم بالطريقة وقلوبهم بالمعرفة وارواحهم واسرارهم بالحقيقة فلا جرم انهم يتقون من جميع ما سوى الله انتهى.
يقول الفقير يشير رضى الله عنه بذلك الى ان المراد بالتقوى المرتبة الثالثة منها وهو تنزه الانسان عن كل ما يشغل سره عن الحق والتبتل اليه بالكلية وهذه المرتبة جامعة لما تحتها من مرتبة التوقى عن الشرك التى يفيدها الايمان ايضا ومرتبة التجنب عن كل ما يؤثم من فعل وترك وللاولياء فى شأن التبتل والتنزه درجات متفاوتة حسب تفاوت درجات استعدادهم اقصاها ما انتهى اليه همم الانبياء عليهم السلام جمعوا بين رياستى النبوة والولاية وما عاقبهم التعلق بعلم الاشباح عن العروج الى عالم الارواح ولم يصدهم الملابسة بمصالح الخلق عن الاستغراق فى شؤون الحق لكمال استعداد نفوسهم الزكية المؤيدة القدسية ومن هنا فضل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على عيسى عليه السلام اذ ليس عروجه الى الرابعة ببديع بالنسبة الى عروج رسولنا عليه السلام الى العرش وما فوقه اذ كان تعلقه بهذه النشأة من جهة الام فقط وتعلق رسول الله من جهة الابوين ومع ذلك ما عاقه التعلق حتى انتهى فى عروجه الى ما انتهى من نهايات العنصريات وغايات الطبيعيات ودوام الاتصال بالانوار العالية ممكن كما يحكى عن بعض المتألهين وان لم يكن فيجعل هذه الحالة ملكة له فيصير بدنه كقميص يلبسه تارة ويخلعه اخرى ألا ترى ان من قدر على النفقة فهو متى جاع فبيده الشبع يأكل ما شاء فقس عليه الرزق المعنوى والعروج الى مبدأه بل هو اولى من ذلك لانه مستغن عن آلة وسبب وليس الطالب والمطلوب مسافة: وفى المثنوى

اين دراز وكوتهى مرجسم راست جه دراز وكوته آنجا كه خداست
جون خدا مرجسم را تبديل كرد رفنتش بى فرسخ وبى ميل كرد

فاذا عرفت ان اولياء الله تعالى هم المؤمنون المتقون بالتقوى الحقيقية فاعرف ايضا انه جاء فى الاولياء اوصاف اخر بعضها متقارب وبعضها باعتبار البداية وبعضها باعتبار النهاية الى غير ذلك
مما روى على كرم الله وجهه هم صفر الوجوه من السهر عمش العيون من العبر خمص البطون من الطوى يبس الشفاه من الذوى
وعن سعيد بن جبير ان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سأل من اولياء الله فقال (هم الذى يذكر الله برؤيتهم) اى بسمتهم واخباتهم وسكينتهم نحو سيماهم فى وجوههم
وقال بعض علامة الاولياء أن همومهم مع الله وشغلهم بالله وفرارهم اليه فنوا فى احوالهم بقائهم فى مشاهدة مالكهم فتوالت عليهم انوار الولاية فلم يكن لهم عن نفوسهم اخبار ولا مع واحد غير الله قرار وهم المتحابون فى الله قال صلى الله تعالى عليه وسلم
"ان لله عبادا ليسوا بانبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله قيل يا رسول الله من هم وما اعمالهم فلعلنا نحبهم قال هم قوم تحابوا فى الله على غير ارحام منهم ولا اموال يتعاطونها فوالله ان وجوههم لنور وانهم لعلى منابر من نور لا يخافون اذا خاف الناس ولا يحزنون اذا حزن الناس" قوله يغبطهم الانبياء تصوير لحسن حالهم على طريقة التمثيل.
قال الكواشى وهذا مبالغة والمعنى لو فرض قوم بهذه الصفة لكانوا هؤلاء والا فلا خلاف ان احدا من غير الانبياء لا يبلغ منزلة الانبياء.
وفى تفسير الفاتحة للفنارى ان النبيين يفزعون على اممهم للشفقة التى جبلهم الله عليها للخلق فيقولون يوم القيامة اللهم سلم سلم ويخافون اشد الخوف على اممهم والامم يخافون على انفسهم واما الآمنون على انفسهم فيغبطهم النبيون فى الذى هم عليه من الامن لما هم اى النبيون عليه من الخوف على اممهم وان كانوا آمنين على انفسهم.
يقول الفقير وحين الانتهاء فى التحرير الى هذا المحل ظهر لى وجه آخر وهو ان الحديث المذكور ناطق عن المحبة فى الله والمحبة مقام اختص به عليه السلام من بين الانبياء والرسل وهو لا ينافى تحقق الكمل من ورثته بحقائقه اذ كمال التابع تابع لكمال متبوعة فمن الجائز ان يحصل لهم من ذلك المقام وآثاره ما به يغبطهم بعض الانبياء
وقد ورد
"علماء امتى كانبياء بنى اسرائيل" ولا يلزم م ذلك بلوغهم منزلة الانبياء ورجحانهم عليهم مطلقا وقد تقرر ان الافضل قد يكون مفضولا من وجه وبالعكس ألا ترى قوله عليه السلام "انتم اعلم بامور دنياكم" ودرجات المعرفة لا نهاية لها والى الله المنتهى.
وقال ابو يزيد قدس سره اولياء الله تعالى عرائس ولا يرى العرائس الا من كان محرما لهم واما غيرهم فلا وهم مخدرون عنده فى حجاب الانس لا يراهم احد فى الدنيا ولا فى الآخرة.
وقال سهل اولياء الله تعالى لا يعرفهم الا اشكالهم او من اراد ان ينفعه بهم ولو عرفهم حتى يعرفهم الناس لكانوا حجة عليهم فمن خالف بعد علمه بهم كفر ومن قعد عنهم خرج .
وقال الشيخ ابو العباس معرفة الولى اصعب من معرفة الله فان الله معروف بكماله وجماله ومتى يعرف مخلوق مخلوقا مثله يأكل كما يأكل ويشرب كما يشرب وهم ظاهرهم مزين باحكام الشرع وباطنهم مستغل بانوار الفقر: وفي المثنوى

رهر وراه طريقت اين بود كاو باحكام شريعت ميرود

قال الكاشفى فى وصف الاولياء

رخش زميدان ازل تاخته كوى بجو كان ابد باخته
معتكفان حرم كبريا شسته دل از صورت كبرويا
راه ثوردان شكست قدم راز كشايان فروبسته دم

وقال السعدى

اسيرش نخواند رهايى زبند شكارش نجويد خلاص ازكمند
دلارام در بر ل دلارى جوى لب ازتشنكى خشك بر طرف جوى