التفاسير

< >
عرض

وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ ٱلْمَآءُ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٤٤
-هود

روح البيان في تفسير القرآن

{ وقيل } بنى على المفعول كأخواته لتعين الفاعل وهو الله تعالى اذ لا يقدر احد غيره على مثل هذا القول البدايع والفعل العجيب اى قال الله تعالى بعد مدة الطوفان تنزيلا للارض والسماء منزلة من له صلاحية النداء { يا ارض } قدم امر الارض على امر السماء لابتداء الطوفان منها { ابلعى } اى انشفى فان البلع حقيقة ادخال الطعام فى الحلق بعمل الجاذبة فهو استعارة لغور الماء فى الارض ووجه الشبه الذهاب الى مقرّ خفى يقال نشف الثوب العرق بكسر الشين اى شربه. وفيه دلالة على انه ليس كالنشف المعتاد التدريجى { ماءك } اى ما على وجهك من ماء الطوفان دون المياه المعهودة فيها من العيون والانهار وانما لم يقل ابلعى بدون المفعول لئلا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء باسرهن نظرا الى مقام ورود الامر الذى هو مقام عظمة وكبرياء كذا فى المفتاح.
يقول الفقير تفسير الارشاد يدل على ان الماء المضاف الى الارض مجموع الماء الذى خرج من بطنها ونزول من السماء والظاهر الذى لا محيص عنه انه ماء الارض بخصوصه فانها لما نشفته صار ما نزل من السماء هذه البحور على ما فى تفسير التيسير ثم رأيت فى بعض الكتب المعتبرة ما يوافق هذا وان الله تعالى لما انزل الطوفان على قوم نوح عليه السلام انزل عليهم المطر من السماء اربعين يوما بمياه كثيرة وامر عيون الارض فانفجرت فكان الماء آن سواء فى اللين غير ان ماء السماء كان مثل الثلج بياضا وبردا وماء الارض مثل الحميم حرارة حتى ارتفع الماء على اعلى جبل فى الدنيا ثمانين ذراعا ثم امر الارض فابتلعت ماءها وبقى ماء السماء لم تبتلعه الارض فهذه البحور التى على وجه الارض منها واما البحر المحيط فغير ذلك بل هو جزر عن الارض حيث خلق الله الارض من زبده انتهى { ويا سماء اقلعى } اى امسكى عن ارسال المطر يقال اقلع الرجل عن عمله اذا كف واقلعت السماء اذا انقطع مطرها فاقلاع يشترك بين الحيوانات والجمادات.
قال العلماء قيل مجاز مرسل من الارادة كأنه قيل اريد ان يرتد ما انفجر من الارض الى بطنها وان ينقطع طوفان السماء وذلك بعد اربعين يوما وليلة -روى- انه لا ينزل من السماء قطرة من ماء الا بكيل معلوم ووزن معلوم الا ما كان يوم الطوفان فانزل بغير كيل ووزن. واصل الكلام قيل يا ارض ابلعى ماءك فبلغت ماءها ويا سماء اقلعى عن ارسال الماء فاقلعت عن ارساله وغيض الماء النازل من السماء فغاض وترك ذكره لظهور انفهامه من الكلام { وغيض الماء } اى نقص ما بين السماء والارض من الماء فظهرت الجبال والارض.
والغيض النقصان يقال غاض الماء قل ونضب وغاضه الله نقصه يتعدى ويلزم وهو فى الآية من المتعدى لان الفعل لا يبنى للمفعول بغير واسطة حرف الجر الا اذا كان متعديا بنفسه { وقضى الامر } اى انجز الموعود من اهلاك الكافرين وانجاء المؤمنين فالقضاء ههنا بمعنى الفراغ كأنه قيل ثم امرهم وفرغ من اهلاكهم واغراقهم.
قال فىالمفتاح قيل الامر دون ان يقال امر نوح لقصد الاختصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك.
قال السيد امالان اللام بدل من المضاف اليه كما هو مذهب الكوفية واما لانها تغنى غناء الاضافة فى الاشارة الى المعهود { واستوت } واستقرت الفلك واختير استوت على سويت اى اقرت مع كونه انسب باخواته المبنية للمفعول اعتبارا لكون الفعل المقابل للاستقرار اعنى الجريان منسوبا الى السفينة على صيغة المبنى للفاعل فى قوله وهى تجرى بهم مع ان استوت اخصر من سويت { على الجودى } هو جبل بالجزيرة بقرب الموصل او بالشام اوبآمد -وروى- فى الخبر ان الله تعالى اوحى الى الجبال انى انزل السفينة على جبل فتشامخت الجبال وتواضع الجودى لله تعالى فارست عليه السفينة: قال السعدى قدس سره

طريقت جزاين نيست درويش را كه افكنده داردتن خويش را
بلنديت بايد تواضع كزين كه آن نام را نيست راهى جزاين

والتواضع آخر مقام ينتهى اليه رجال الله تعالى وحقيقته اعلم بعبودية النفس ولا يصح مع العبودية رياسة اصلا لانها ضد لها. ولهذا قال المشايخ قدس الله اسرارهم وآخر ما يخرج من قلوب الصديقين حب الرياسة ولا تظن ان هذا التواضع الظاهر على اكثر الناس وعلى بعض الصالحين تواضع وانما هو تملق لسبب غاب عنك وكل يتملق على قدر مطلوبه والمطلوب منه فالتواضع سر من اسرار الله تعالى لا يهبه على الكمال الا لنبى او صديق كما فى المواقع.
وعن على رضى الله اشد الخلق الجبال الرواسى والحديد اشد منها اذ نيحت به الجبل والنار تغلب الحديد والماء يطفى النار والسحاب يحمل الماء والريح تحمل السحاب والانسان يغلب الريح بالبنيان والنوم يغلب الانسان والموت يغلب الكل.
وذكر اهل الحكمة ان مجموع ما عرف فى الاقاليم السبعة من الجبال مائة وثمانية وسبعون جبلا.
وفى زهرة الرياض ستة آلاف وستمائة وثلاثة وسبعون جبلا سوى التلول منها ما طوله عشرون فرسخا ومنها مائة فرسخ الى الف فرسخ.
وفى اسؤلة الحكم جعل الله الجبال كراسى انبيائه كاحد لنبينا والطور لموسى وسرنديب لآدم والجودى لنوح عليهم السلام وكفى بذلك شرفا وانها بمنزلة الرجال فى الاكوان يقال للرجل الكامل جبل.
واختلفوا فى ان اى الجبال افضل فقيل ابو قبيس لانه اول جبل وضع على الارض وقيل عرفة وقيل جبل موسى وقيل قاف.
وقال السيوطى افضل الجبال جبل احد وهو جبل من جبال المدينة وسمى بذلك لتوحده وانفراده عن غيره من الجبال التى هى هناك وهذا الجبل يقصد لزيارة سيدنا حمزة رضى الله عنه ومن فيه من الشهداء رضى الله عنهم وهوعلى نحو ميلين او على نحو ثلاثة من المدينة واستدل على افضليته بانه مذكور فى القرآن باسمه فى قراءته من قرأ
{ { اذ تصعدون ولا تلوون على احد } اى بضم الهمزة والحاء بقوله عليه السلام "احد ركن من اركان الجنة" اى جانب عظيم من جوانبها وقوله "الآخر ان احدا هذا جبل يحبنا ونحبه فاذا مررتم به فكلوا من شجره ولو من عضاهه" وهى كل شجرة عظيمة لها شوك والقصد الحث على عدم اهمال الاكل من شجرة تبركابه ولا مانع ان تكون المحبة من الجبل على حقيقتها وضع الحب فيه كما وضع فى التسبيح فى الجبال مع داود عليه السلام وكما وضعت الخشية فى الحجارة قال الله تعالى { { وان منها لما يهبط من خشية الله } كما فى انسان العيون
يقول الفقير للجمادات حياة حقانية عند اهل الله تعالى كما قال فى المثنوى

بادرا بى جشم اكر بينش نداد فرق جون ميكررد اندر قوم عاد
كر نبودى نيل را آن نورديد ازجه قبطى را زسبطى ميكزيد
كرنه كوه سنك باديدار شد بس جرا داور درااو يار شد
اين زمين كرنبودى جشم جان ازجه قارونرا فرخوردى جنان

ومن هذا عرفت النداء فى قوله تعالى يا ارض ويا سماء حقيقة عند العلماء بالله وكذا مقاله تعالى المنفعهم من قوله وقيل.
وقال حضرة الشيخ الاكبر قدس سره الاطهر وكما نقول تجلى الله تعالى فى صورة كما يليق بجلاله كذلك نقول تكلم بحرف وصوت كما يليق بجلاله وكلام الله تعالى عين المتكلم فى مرتبة ومعنى قائم به فى الاخرى كالكلام النفسى ومركب من الحروف ومتعين بها فى عالمى المثال والحس. بحسبهما كما فى الدرة الفاخرة للمولى الجامىرحمه الله .
ثم ان نوحا هبط من السفينة الى الجودى يوم عاشوراء.
وعن قتادة استقلت بهم السفينة لعشر خلون من رجب وكانت فى الماء خمسين ومائة يوم واستقرت بهم على الجودى شهرا وذلك ستة اشهر وهبطت بهم يوم عاشوراء وسيأتى ما يتعلق بذلك { وقيل بعدا للقوم الظالمين } قولا بعدا مصدر مؤكد لفعله المقدر اى بعدوا بعدا اى هلكوا من قولهم بعدا وبعدا اذا ارادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت. والمعنى الدعاء عليهم بذلك وهو تعليم من الله تعالى لعباده ان يدعوا على الظالمين به اى ليبعد القوم بعدا وليهلكوا وهو بالفارسية [دورى وهلاكى باد مرقوم ستمكارانرا] واللام فى للقوم لبيان من دعى عليهم كاللام فى هيت لك وسقيا لك متعلق بالفعل المحذوف او بقوله قيل اى لاجلهم هذا القول والتعرض لوصف الظلم للاشعار بعليته للهلاك وفيه تعريض بان سالكى مسالكهم فى الظلم والتكذيب يستحقون مثل هذا الاهلاك والدعاء عليهم.
قال فى المفتاح وختم الكلام وختم اظهار لمكان السخط ولجهة استحقاقهم اياه لان الدعاء بالهلاك بعد هلاكهم. قيل ما نجا من الكفار غير عوج بن عنق كان فى الماء الى حجزته وهو مقعد الازار وكان طوله ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراع وقد عاش ثلاثة آلاف سنة وقد سبق فى سورة المائدة وكان سبب نجاته ان نوحا عليه السلام احتاج الى خشب ساج للسفينة فلم يمكنه نقلها فحملها عوج اليه من الشام فنجاه الله من الغرق بذلك.
وقد ثبت ايضا ان واحدا من آل فرعون كان يلبس قلنسوة مثل قلنسوة موسى عليه السلام ويسخر منه وقد نجاه الله تعالى من الغرق فى بحر القلزم بمجرد تشبهه الصورى ولو تاب من جنايته لنجا من عذاب الدارين
وعن ابى العالية قال لما رست سفينة نوح عليه السلام اذا هو بابليس على كوثل السفينة اى مؤخرتها فقال له نوح ويلك قد غرق اهل الارض من اجلك قد اهلكتهم قال له ابليس فما اصنع قال تتوب قال فسل ربك هل لى من توبة فدعا نوح ربه فاوحى الله تعالى اليه ان توبته ان يسجد لقبر آدم عليه السلام فقال له نوح قد جعلت لك قال وما هى قال تسجد لقبر آدم تركته حيا واسجد له ميتا.
وفيه اشارة الى ان السجدة لآدم وهو مقبور كالسجدة له وهو غير مقبور اذ الانبياء عليهم السلام احياء عند ربهم وكذا كمل الاولياء قدس الله اسرارهم كما قال الصائب

مشومبرك زامداد اهل دل نوميد كه خواب مردم آكاه عين بيداريست

والشيطان الرجيم غفل عن هذا فنكل عن قبول الحق الصريح ومثله من ينكر الاولياء او زيارة قبورهم والاستمداد منهم نسأل الله العصمة ونعوذ به من الخذلان.
اعلم ان القرآن بجميع سوره وآياته معجز فى غاية طبقات الفصاحة والبلاغة لكن بين بعض اجزائه تفاوت بحسب الاشتمال على الخواص والمزايا فان بعض المقام لا يتحمل ما تحمله مقام كلام فوقه من اللطائف والخفايا فمن المرتفع شأنه فى الحسن والقبول هذه الاية الكريمة وهى قوله تعالى { وقيل يا ارض ابلعى } الى آخره ولذا لما سمعها من تبوأ اسرّة الفصاحة القحطانية وركب متن البلاغة فى بدوّ الخطب العدنانية من العرب العرباء ومصاقع الخطباء سجدوا لفصاحتها وتططأوا دون سرادقات احاطتها ونسوا قصائدهم المعلقة ورجعوا عن منشآتهم المقررة المحققة ولقد احسن من نبه على التفاوت المذكور وقال على ما هو المشهود

دربيان ودر فصاحت كى بودى يكسان سخن كرجه كوينده بودجون جاحظ وجون اصمعى
از كلام ايزد بيجون كه وحى منزلست كى بود تبت يدا جون قيل يا ارض ابلعى

ألا ترى ان الله سبحانه وتعالى جعل الانبياء عليهم السلام متساوية الاقدام فى درجة النبوة وجعل استعدادات اممهم مختلفة فاختلافهم انما هو لمعنى فى نفسهم لا لمعنى فى الذى ارسل اليهم فلما كانت هذه الآيات الآفاقية والانفسية الواقعة فى مصحف الفرقان متباينة كانت الآيات البينات المندرجة فى مصحف القرآن كذلك اذ هو جامع لحقائق جميع النسخ الوجوبية والامكانية موافق لما فصله الكتب العلمية والاعيانية والله درشأن التنزيل فى الاشارة الى المراتب والله الغالب.
قال فى التأويلات النجمية { وقيل يا ارض ابلعى ماءك } اى يا ارض البشرية ماء شهواتك ويا سماء القضاء اقلعى عن انزال مطر الآفات { وغيض الماء } ماء الفتن اى نقصت ظلمتها بنور الشرع وسكنت سورتها { وقضى الامر } اى انقضى ما كان مقدرا من طوفان الفتن للابتلاء { واستوت } اى سفينة الشريعة { على الجودى } وهو مقام التمكين يعنى ايام الطوفان كانت من مقامات التلوين فى معرض الآفات والهلاك فلما مضت تلك الايام آل الامر الى مقام التمكين وفيه النجاة والثبات ونيل الدرجات { وقيل بعدا } اى غرقة وهلاكا { للقوم الظالمين } الذين ظلموا انفسهم بالتقاعد عن ركوب سفينة الشريعة انتهى