التفاسير

< >
عرض

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً
٣
-النصر

روح البيان في تفسير القرآن

{ فسبح بحمد ربك } التسبيح مجاز عن التعجب بعلاقة السببية فان من رأى امرا عجيبا يقول سبحان الله قال ابن الشيخ لعل الوجه فى اطلاق هذه الكلمة عند التعجب كما ورد فى الاذكار ولكل اعجوبة سبحانه الله هو أن الانسان عند مشاهدة الامر العجيب الخارج عن حد أمثاله يستبعد وقوعه وتنفعل نفسه منه كانه استقصر قدرة الله فلذلك خطر على قلبه ان يقول من قدرعليه وأوجده ثم انه فى هذا الزعم مخطئ فقال سبحان الله تنزيها لله عن العجز عن خلق امر عجيب يستبعد وقوعه لتيقنه بأن الله على كل شئ قدير قال الامام السهيلىرحمه الله سر اقتران الحمد بالتسبيح ابدا نحو سبح بحمد ربك وان من شئ الا يسبح بحمده ان معرفة الله تنقسم قسمين معرفة ذاته ومعرفة اسمائه وصفاته ولا سبيل الى اثبات احد القسمين دون الآخر واثبات وجود الذات من مقتضى العقل واثبات الاسماء والصفات من مقتضى الشرع فبالعقل عرف المسمى وبالشرع عرفت الاسماء ولا يتصور فى العقل اثبات الذات الا مع نفى سمات الحدوث عنها وذلك هو التسبيح ومقتضى العقل مقدم على مقتضى الشرع وانما جاء الشرع المنقول بعد حصول النظر والعقول فنبه العقول على النظر فعرفت ثم علمها ما لم تكن تعلم من الاسماء فانضاف لها التسبيح والحمد والثناء فما امرنا تسبيحه الا بحمده انتهى ومعنى الآية فقل سبحان الله حال كونك ملتبسا بحمده اى فتعجب لتيسير الله ما لم يخطر ببال احد من ان يغلب احد على أهل حرمه المحترم واحمده على جميع صنعه هذا على الرواية الاولى ظاهر واما على الثانية فلعله امر بأن يداوم على ذلك استعظاما لنعمته لا باحداث التعجب لما ذكر فانه انما يناسب حالة الفتح وقال بعضهم والاشبه ان يراد نزهه عن العجز فى تأخير ظهور الفتح واحمده على التأخير وصفه بأن توقيت الامور من عنده ليس الا بحكم لا يعرفها الا هو انتهى او فاذكره مسبحا حامدا وزد فى عبادته والثناء عليه لزيادة انعامه عليك او فصل له حامدا على نعمه فالتسبيح مجاز عن الصلاة بعلاقة الجزئية لانها تشتمل عليه فى الاكثر روى انه عليه السلام لما فتح باب الكعبة صلى صلاة الضحى ثمانى ركعات وحملها بعضهم على صلاة الشكر لا على صلاة الضحى وبعضهم على ان اربعا منها للشكر وأربعا للضحى او فنزهه عما يقول الظلمة حامدا له على ان صدق وعده او فأثن على الله بصفات الجلال يعنى الصفات السلبية حامدا له على صفات الاكرام يعنى الصفات الثبوتية اى على آثارها او على تنزيلها منزلة الاوصاف الاختيارية لكفاية الذات المقدس فى الاتصاف بها فان المحمود عليه يجب ان يكون امرا اختياريا وقال القاشانى نزه ذاتك عن الاحتجات بمقام القلب الذى هو معدن النبوة بقطع علاقة البدن والترقى الى مقام حق اليقين الذى هو معدن الولاية حامدا له باظهار كمالاته واوصافه التامة عند التجريد بالحمد الفعلى { واستغفره } هضما لنفسك واستقصارا لعلمك واستعظاما لحقوق الله واستدراكا لما فرط منك من ترك الاولى او استغفره لذنبك وللمؤمنين وهو المناسب لما فى سورة محمد وتقديم التسبيح ثم الحمد على الاستغفار على طريق النزول من الخالق الى الخلق حيث لم تشتغل على رؤية الناس باستغفارهم اولا مع ان رؤيتهم تستدعى ذلك بل اشتغل اولا بتسبيح الله وحمده لانه رأى الله قبل رؤية الناس كما قيل ما رأيت شيأ الا ورأيت الله قبله وذلك لان الناس مرءآة العارف وصاحب المرءآة يتوجه اولا الى المرئى وبرؤية المرئى تلتفت نفسه الى المرءآة ولك ان تقول ان فى التقديم المذكور تعليم ادب الدعاء وهو ان لا يسأل فجأة من غير تقديم الثناء على المسئول عنه عن عائشة رضى الله عنها "انه كان عليه السلام يكثر قبل موته ان يقول سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك واتوب اليك" وعنه عليه السلام "انى لاستغفر الله فى اليوم والليلة مائة مرة" ومنه يعلم ان ورد الاستغفار لا يسقط ابدا لانه لا يخلو الانسان عن الغين والتلوين وروى انه لما قرأها النبى عليه السلام على اصحابه استبشروا وبكى العباس فقال عليه السلام "ما يبكيك يا عم" قال نعيت اليك نفسك اى ألقى اليك خبر موت نفسك والنعى ألقاء خبر الموت قال عليه السلام "انها لكما تقول" فلم ير عليه السلام بعد ذلك ضاحكا مستبشرا وقيل ان ابن عباس رضى الله عنهما هو الذى قال ذلك فقال عليه السلام "لقد اوتى هذا الغلام علما كثيرا" ولذلك كان عمر يدنيه ويأذن له مع اهل بدر ولعل ذلك للدلالة على تمام امر الدعوة وتكامل امر الدين كقوله تعالى { اليوم اكملت لكم دينكم } والكمال دليل الزوال كما قيل.
توقع زوالا اذا قيل تم. او لان الامر بالاستغفار تنبيه على قرب الاجل كأنه قال قرب الوقت ودنا الرحيل فتأهب للامر ونبه به على ان العاقل اذا قرب اجله ينبغى ان يستكثر من التوبة وروى انها لما نزلت خطب رسول الله صلىالله عليه وسلم فقال
"ان عبدا خيره الله بين الدنيا وبين لقائه فاختار لقاء الله" فعلم ابو بكر رضى الله عنه فقال فديناك بانفسنا واموالنا وآبائنا واولادنا وعنه عليه السلام انه دعا فاطمة رضى الله عنها فقال "يا بنتاه انه نعيت إلىَّ نفسى" يعنى خبروفات من دهند

نامه رسيد ازان جهان بهر مراجعت برم عزم رجوع ميكنم رخت بجرخ ميبرم

فبكت فقال "لا تبكى فانك اول اهلى لحوقا بى" فضحكت وعن ابن مسعود ان هذه السورة تسمى سورة التوديع لما فيها من الدلالة على توديع الدنيا قال على رضى الله عنه لما نزلت هذه السورة مرض رسول الله عليه السلام فخرج الى الناس فخطبهم وودعهم ثم دخل المنزل فتوفى بعد ايام قال الحسنرحمه الله أعلم انه قد اقترب اجله فامر بالتسبيح والتوبة ليختم له بالعمل الصالح وفيه تنبيه لكل عاقل { انه كان توابا } مبالغا فى قبول توبتهم منذ خلق المكلفين فليكن كل تائب مستغفر متوقعا للقبول وذلك ان قبول التوبة من الصفات الاضافية ولا منازعة فى حدوثها فاندفع ما يرد ان المفهوم من الآية انه تعالى تواب فى الماضى وكونه توابا الماضى كيف يكون علة للاستغفار فى الحال والمستقبل وفى اختيار انه كان توابا على غفار مع انه الذى يستدعيه قوله واستغفر حتى قيل وتب مضمر بعده والا لقال غفارا تنبيه على ان الاستغفار انما ينفع اذا كان مع التوبة والندم والعزم على عدم العود ثم ان من اضمر وتب يحتمل انه جعل الآية من الاحتباك حيث دل بالامر بالاستغفار على التعليل بأنه كان غفارا وبالتعليل بأنه كان توابا على الامر بالتوبة اى استغفره وتب.
ذكر البرهان الرشيدى ان صفات الله تعالى التى على صيغة المبالغة كلها مجاز لانها موضوعة للمبالغة ولا مبالغة فيها لان المبالغة ان يثبت للشئ اكبر اكثر مما له وصفاته تعالى منزهة عن ذلك واستحسنه الشيخ تقى الدين السبكىرحمه الله وقال الزر كشى فى البرهان التحقيق ان صيغة المبالغة قسمان احدهما ما تحصل المبالغة فيه بحسب زيادة الفعل والثانى بحسب تعدد المفعولات ولا شك ان تعددها لا يوجب للفعل زيادة اذ الفعل الواحد قد يقع على جماعة متعددين وعلىهذا القسم تنزل صفاته ويرفع الاشكال ولهذا قال بعضهم فى حكيم معنى المبالغة فيه تكرار حكمه بالنسبة الى الشرآئع وقال فى الكشاف المبالغة فى التواب للدلالة على كثرة من يتوب عليه او لانه بليغ فى قبول التوبة بحيث ينزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط لسعة كرمه.
تمت سورة النصر بعون من أقسم بالعصر بعد ظهر يوم السبت