التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوۤءُ ٱلدَّارِ
٢٥
-الرعد

روح البيان في تفسير القرآن

{ والذين } هم الكفار { ينقضون عهد الله } المأخوذ عليهم بالطاعة والايمان { من بعد ميثاقه } اى من بعد توكيد ذلك العهد بالاقرار والقبول وهو العهد الذى جرى بينهم اذا اخرجهم من ظهر آدم وعاهدهم على التوحيد والعبودية كقوله { { ألم أعهد اليكم يا بنى آدم ان لا تعبدوا الشيطان } الآية فالعهد عهدان عهد على المحبة وهو للخواص وعهد على العبودية وهو للعوام فاهل عهد المحبة ما نقضوا عهودهم ابدا وهل عهد العبودية من كان عهدهم مؤكدا بعهد المحبة ما نقضوه ومن لم يكن عهدهم مؤكدا نقضوه وعبدوا غيره واشركوا به الاشياء واحبوها للهوى.
واعلم ان هذا العهد يتذكره اهل اليقظة الكاملة المنسلخون عن كل لباس وغاشية كما قال ذو النون المصرى وقد سئل عن سر ميثاق ألست بربكم هل تذكره فقال نعم كأنه فى اذنى وكما قال بعضم مستقربا اى عادا لعهد ألست قريبا كأنه بالامس كان ولذا ما نسوه واما غيرهم وهم اهل الحجاب فاستبعدوه ولم يذكروا منه شيئا { ويقطعون ما امر الله به ان يوصل } سبق اعرابه اي يقطعون الارحام وموالاة المؤمنين وما بين الانبياء من الوصلة والاتحاد والاجتماع على الحق حيث آمنوا ببعضهم وكفروا ببعضهم { ويفسدون فى الارض } بالدعاء الى عبادة غير الله تعالى وبالظلم وتهييج الحروب والفتن وفى الحديث
"الفتنة نائمة لعن الله من ايقظها" وهى ايقاع الناس فى الاضطراب والاختلال والاختلاف والمحنة والبلية بلا فائدة دينية وذلك حرام لانه فساد فى الارض واضرار المسلمين وزيغ والحاد فى الدين: قال السعدى قدس سره

زان همنشين تاتوانى كريز كه مرفتنه خفته را كفت خيز

فمن الفتنة ان يعزى الناس على البغى والخروج على السلطان وذلك لا يجوز وان كان ظالما لكونه فتنة وفسادا فى الارض وكذا معاونة المظلومين اذا ارادوا الخروج عليه وكذا المعاونة له لكونه اعانة على الظلم وذلك لا يجوز. ومنها ان يقول لناس ما لا تصل عقولهم اليه وفى الحديث "امرنا ان نكلم الناس على قدر عقولهم" . ومنها ان يذكر للناس ما لا يعرفه بكنهه ولا يقدر على استخراجه فيوقعهم فى الاختلاف والاختلال والفتنة والبلية كما هو شأن بعض الوعاظ فى زماننا. ومنها ان يحكم ويفتى بقول مهجور او ضعيف او قوى يعلم ان الناس لا يعلمون به بل ينكرونه او يتركون بسببه طاعة اخرى كمن يقول لاهل القرى والبوادى والعجائز والعبيد والاماء لا تجوز الصلاة بدون التجويد وهم لا يقدرون على التجويد فيتركون الصلاة رأسا وهى جائزة عند البعض وان كان ضعيفا فالعمل به واجب وكمن يقول للناس لا يجوز البيع والشراء والاستقراض بالدراهم والدنانير الا بالوزن لان رسول الله صلى الله عليه وسلم نص عليها بالوزن فهو وزنى ابدا وان ترك الناس فيه الوزن فهذا القول قوى فى نفسه وهو قول الامام ابى حنيفة ومحمد مطلقا وقول ابى يوسف فى غير ظاهر الرواية وهى خروجها عن الوزنية بتعامل الناس الى العددية فهذه الرواية وان كانت ضعيفة فالقول بها واجب ولازم فرارا من الفتنة فيجب على القضاة والمفتين والوعاظ معرفة احوال الناس وعاداتهم فى القبول والرد والسعى والكسل ونحوها فيكلمونهم بالاصلح والاوفق لهم حتى لا يكون كلامهم فتنة للناس وكذا الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فانه يجب على الآمر والناهى معرفة احوال الناس وعاداتهم وطبائعهم ومذاهبهم لئلا يكون فتنة للناس وتهييجا للشر وسببا لزيادة المنكر واشاعة المكروه { اولئك لهم اللعنة } فى الآخرة والجملة خبر والذين ينقضون. واللعنة الابعاد من الرحمة والطرد من باب القرب { ولهم سوء الدار } اى سوء عاقبة الدنيا وهى جهنم فاللعنة وسوء العاقبة لاصقان بهم لا يعدو انهم الى غيرهم وفيه تنفير للمسلمين عن هذه الخصال الثلاث وان لا ترفع همتهم حول ذلك الحمى وفى الحديث "ما نقض قوم العهد الا كان القتل بينهم ولا ظهرت الفاحشة الا سلط الله عليهم الموت ولا منع قوم الزكاة الا حبس عنهم القطر" وفى الحديث "من اخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين لا يقبل منه يوم القيامة عدلا ولا صرفا" اي فريضة ونافلة كما فى الاسرار المحمدية

وفا وعهد نكو باشد ار بياموزى وكرنه همر كه توبينى ستمكرى داند

واعلم ان اللعنة لعنتان طرد عن الجنة وهو للكافرين وطرد عن ساحة القربة والوصلة وهو للمؤمنين الناقصين فمن قصر فى العبودية وسعى فى افساد الارض الاستعداد وقع فى دار القطيعة والهجران وان كان صورة فى الجنان ورب كامل فى الصورة ناقص فى المعنى وبالعكس: قال المولى الجامى

جه غم زمنقصت صورت أهل معنى را جوجان زروم بود كوتن از حبش مى باشى

ألا ترى ان ابراهيم عليه السلام اذ القى فى النار كانت بردا وسلاما فلم يضره كونه فى صورة النار والنمرود كان فى صورة النعمة فلم ينفعه ذلك بل وجد فى النعمة نقمة نسأل الله تعالى ان يجعلنا من اهل الجنة والقربة والوصلة