التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ
٢٩
-الحجر

روح البيان في تفسير القرآن

{ فاذا سويته } اى صورته بالصورة الانسانية والخلقة البشرية { ونفخت فيه من روحى } النفخ اجراء الريح الى تجويف جسم صالح لامساكها والامتلاء بها وهو كناية عن ايجاد الحياة ولا نفخ ثمة ولا منفوخ بل ليس عند الحقيقة الالقاء الموجد اسم فاعل بالموجد اسم مفعول وسريان هويته اليه وظهور صفته وفعله فيه.
قال الشيخ عز الدين النفخ عبارة عما اشعل نور الروح فى المحل القابل فالنفخ سبب الاشعال وصورة النفخ فى حق الله تعالى محال والمسبب غير محال فعبر عن نتيجة النفخ بالنفخ وهو الاشعال واما السبب الذى اشتعل به نور الروح فهو صفة فى الفاعل وصفة فى المحل القابل اما صفة الفاعل فالجود الذى هو ينبوع الوجود وهو فياض بذاته على كل موجود حقيقة وجوده ويعبر عن تلك الصفة بالقدرة ومثالها فيضان نور الشمس على كل قابل الاستنارة عند ارتفاع الحجاب فيما بينهما والقابل هو الملونات دون الهواء الذى لا تلون له واما صفة المحل القابل فالاستواء والاعتدال الحاصل فى التسوية كما قال تعالى { فاذا سويته } ومثال صفة القابل صقالة المرآة فان المرآة قبل صقالتها لا تقبل الصورة وان كانت محاذية لها فاذا صقلت حدثت صورة من ذى الصورة المحاذية لها فكذلك اذا حصل الاستواء فى النطفة حدث فيها الروح

آن صفاى آينه وصف دلست صورت بى منتهارا قابلست
اهل صيقل رسته انداز بوورنك هر دمى بينند خوبى بى درنك

وانما اضاف النفخ الى ذاته لانه تعالى باشر تسويته وتعديله فخلقه وسواه وعدله بيديه المقدستين ثم نفخ بذاته دون واسطة فيه من روحه الاضافى وهو نفسه الرحمانى الذى يقال له الوجود الظلى المشار اليه بقوله { { ألم تر الى ربك كيف مد الظل } نفخا استلزم لكونه نفخا بالذات فيما بوشرت تسويته باليدين معرفة الاسماء كلها جمالية لطيفة كانت او جلالية قهرية.
قال الشيخ عز الدين لروح منزهة عن الجهة والمكان وفى قوتها العلم بجميع الاشياء والاطلاع عليها وهذه مناسبة ومضاهاة ليست لغيره من الجسمانيات فلذلك اختصت بالاضافة الى الله تعالى.
قال الامام الجلدكى فى كتاب الانسان من كتاب البرهان جوهر الانسان حقيقة واحدة فى الفطرة الاولى ذات قوى كثيرة وهو المسمى عند الصوفية روحا وقلبا وعند الحكيم نفسا ناطقة فاذا تعلق بالبدن انتشرت قواه واختفى نوره وحصل له مراتب كثيرة وعند احتجاجه بغواشى النشأة واستحالته بالامور الطبيعية يسمى نفسا وعند تجرده وظهور نوره يسمى عقلا وعند اقباله على الحق ورجوعه الى العالم القدسى ومشاهدته يسمى روحا وباعتبار اطلاعه ومعرفته للحق وصفاته واسمائه جمعا وتفصيلا يسمى قلبا وباعتبار ادراكه للجزئيات فقط واتصافه بالملكات والهيآت التى هى مصادر الافعال يسمى نفسا انتهى كلامه.
يقول الفقير ذهب جمع من اهل السنة والجماعة منهم الغزالى والامام الرازى وفاقا للحكماء والصوفية الى ان الروح اثر مجرد غير حال بالبدن يتعلق به تعلق العاشق بالمعشوق يدبر امره على وجه لا يعلمه الا الله تعالى. وتحقيق المقام ان الروح سلطانى وحيوانى فالاول من عالم الامر ويقال له المفارق ايضا لمفارقته عن البدن وتعلقه به تعلق التدبير والتصرف وهو لا يفنى بخراب هذا البدن وانما يفنى تصرفه فى الاعضاء ومحل تعينه هو القلب الصنوبرى والقلب من عالم الملكوت.
قال فى التعريفات الروح الاعظم هو الروح الانسانى مظهرالذات الالهية من حيث ربوبيتها والثانى من عالم الخلق ويقال له القلب والعقل والنفس ايضا وهو سائر فى جميع اعضاء البدن كما قال فى التعريفات الروح الحيوانى جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسمانى وينتشر بواسطة العروق الضوارب الى سائر اجزاء البدن واقوى مظاهره الدم ومحل تعينه هو الدماغ وهو اثر الروح السلطانى ومبدأ الافعال والحركات وهو بمنزلة الصفة من الذات فكما ان الافعال الالهية تبتنى على اجتماع الذات بالصفة كذلك الافعال تتفرع على اجتماع الروح السلطانى بالروح الحيوانى وكما ان الصفات الالهية الكمالية كانت فى بطن غيب الذات الاحدية قبل وجود هذه الافعال والآثار كذلك هذا الروح الحيوانى كان بالقوة فى باطن الروح السلطانى قبل تعلقه بهذا البدن.
قال حضرة شيخى قدس سره فى بعض تحريراته غيب السر وهو السر الاخفى اى سر السر مظهر الوجود المطلق عن جميع التعينات السلبية والايجابية بالاطلاق الذاتى الاصلى الحقيقى الوجودى لا بالاطلاق الاضافى النسبى الوهمى الاعتبارى والسر مظهر التعين الاول الذاتى الاحدى الجمعى والروح السلطانى مظهر التعين الثانى الصفاتى الواحد الفرقى والروح الحيوانى مظهر التعين الثالث الفعلى ولا حجاب الا جهالة النفس بنفسها وغفلتها فلو ارتفعت جهالتها وغفلتها لشاهدت الامر وعاينته كما تشاهد الشمس فى وسط السماء وتعاينها اللهم ارفع الحجب عن القلوب حتى تنفتح ابواب الغيوب انتهى بعبارته.
قال الله تعالى فى بعض كتبه المنزلة اعرف نفسك يا انسان تعرف ربك وقال عليه الصلاة والسلام
"اعرفكم بنفسه اعرفكم بربه" ومن فضل الله تعالى على الانسان ان علمه طريق معرفته بان جمع فى شخصه مع صغر حجمه من العجائب ما يكاد يوازى عجائب كل العالم حتى كأنه نسخة مختصرة من هيئة العالم

آدمى جيست برزخى جامع صورت خلق وحق درو واقع
متصل با دقائق جبروت مشتمل بر حقائق ملكوت

ليتوسل الانسان بالتفكر فيها الى العلم بالله الذى هو اجل المعلوم واشراف المعارف. ومعنى الآية فاذا كملت استعداده وجعلت فيه الروح حتى جرى آثاره فى تجاويف اعضائه فحيى وصار حساسا متنفسا { فقعوا له } امر من وقع يقع وفيه دليل على انه ليس المأمور به مجرد الانحناء قيل اى سقطوا له { ساجدين } امتثالا لامر الله تعالى وتحية لآدم وتعظيما وتكريما له واسجدوا لله على انه عليه السلام بمنزلة القبلة حيث ظهر فيها تعاجيب آثار قدرته وحكمته.
يقول الفقير لى رؤيا صادقة فى هذا المقام وهى انى رأيت حضرة شيخى وسندى روح الله روحه فى المنام فى غاية من الانبساط فسألته عن بعض ما يتعلق بالموت فقال كنت على الطهارة الكاملة الى آخر النفس فلما قبض روحى دخلت فجا يجرى فيه عين ماء فتوضأت منه لانه وقع الحدث بالنزع ثم عرج بى الى السماء ثم رجعت الى جنازتى فصليت مع الحاضرين فقلت له هل يبقى العقل والادراك الذى فى هذه النشأة الدنيوية على حاله قال نعم ثم اخذ بيدى وهو متبسم فقال لى مرتين كن معتقدا لى كأنه اظهر السرور من حسن اعتقادى له فاستيقظت ففى هذه الرؤيا امور. منها ان الوضوء ينتقض عند النزع وعليه بنى مشروعية الغسل فى الاصح والمؤمن الكامل طاهر فى حياته ومماته فلا يتنجس والحدث غير التنجس ولو سلم فهو بالنسبة الى الناقص.
والحاصل انه يغسل الكامل غسل الناقص لانه على غير وضوء بحسب الظاهر ولانه فى هذه النشأة الدنيوية تابع للناقص فيما يتعلق بالامور الظاهرة. ومنها بيان بقاء العقل والادراك على حاله لان العقل والايمان والولاية ونحوها من صفات الروح وهو لا يتغير بالموت. ومنها ان الروح الكامل يشهد جنازته فيكون اسوة للناس فى الصلاة فصلاته على نفسه اشارة الى ان الكامل هو الساجد والمسجود له فى مرتبة الحقيقة فعبادته له لا لغير فافهم جدا وصلاة الناس عليه اشارة الى سجود الملائكة لآدم ولهذا شرعت صلاة الجنازة مطلقا تحقيقا لهذا السر العظيم ولا ينافيه كونها دعاء وثناء فى مرتبة الشريعة اذ لكل مرتبة حد بحسب الوقوف عنده.
قال فى التأويلات النجمية { فاذا سويته } تسوية تجعله قابلا لنفختى وللروح المضاف الىّ { ونفخت فيه من روحى } يشير بتشريف هذه الاضافة الى اختصاص الروح باعلى المراتب من الملكوت الاعلى وكمال قربه الى الله كما قال
{ { ونحن اقرب اليه من حبل الوريد } والى اختصاصه بقبول النفخة فانه تشرف بهذا التشريف وخص به من سائر المخلوقات { فقعوا له ساجدين } وذلك لان الروح لما ارسل من اعلى مراتب القرب بنفخة الحق تعالى الى اسفل سافلين القالب كان عبوره على الروحانيات والملائكة المقربين وهم خلقوا من نور فاندرجت انوار صفاتهم فى نور صفاته كما تندرج انوار الكواكب فى نور الشمس ثم عبر على الجن والشياطين فاتخذ زبدة خواص صفاتهم ثم عبر على الحيوانات فاستفاد منهم الحواس والقوى ثم تعلق بالقالب المخلوق بيد الله المخمر فيه لطف الله وقهره المستعد لقبول التجلى فلما خلق الله آدم وتجلى فيه قال لاهل الخطاب وهم الملائكة فقعوا له ساجدين لاستحقاق كماله فى الخلقة وشرفه بالعلم وقابليته للتجلى