التفاسير

< >
عرض

وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ
١٢٦
وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ
١٢٧
-النحل

روح البيان في تفسير القرآن

{ وان عاقبتم } اى اردتم المعاقبة على طريقة قول الطبيب للمحمى ان اكلت فكل قليلا { فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } اى بمثل ما فعل بكم وقد عبر عنه بالعقاب على طريقة اطلاق اسم المسبب على السبب نحو كما تدين تدان اى كما تفعل تجازى سمى الفعل المجازى عليه باسم الجزاء على الطريقة المذكورة او على نهج المشاكلة والمزاوجة يعنى تسمية الاذى الابتدائى معابة من باب المشاكلة والا فانها فى وضعها الاصل تستدعى ان تكون عقيب فعل نعم العرف جار على اطلاقها على ما يعذب به احد وان لم يكن جزاء فعل كما فى حواشى سعدى المفتى.
قال القرطبى اطبق جمهور اهل التفسير ان هذا الآية مدنية نزلت فى شأن سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك ان المشركين مثلوا بالمسلمين يوم احد بقروا بطونهم وجدعوا انوفهم واذانهم وقطعوا مذاكيرهم ما بقى احد غير ممثول به الا حنظلة بن الراهب لان اباه عامر الراهب كان مع ابى سفيان فتركوه لذلك
"ولما انصرف المشركون عن قتلى احد انصرف رسول الله عليه الصلاة والسلام فرأى منظرا ساءه رأى حمزة قد شق بطنه واصطلم انفه وجدعت اذناه ولم ير شيئا كان اوجع لقلبه منه فقال رحمة الله عليك كنت وصولا للرحم فعالا للخير لولا ان تحزن النساء او يكون سنة بعدى لتركتك حتى يبعثك الله من بطون السباع والطير اما والله لئن اظفرنى الله بهم لامثلن بسبعين مكانك" وقال المؤمنين ان اظهرنا الله عليهم لنزيدن على صنعهم ولنمثلن مثلة لم يمثلها احد من العرب باحد قط ولنفعلن ثم دعا عليه السلام ببردته فغطى بها وجه حمزة فخرجت رجلاه فجعل على رجليه شيئا من الاذخر ثم قدمه فكبر عليه عشرا ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه حتى صلى عليه سبعين صلاة وكان القتلى سبعين.
وفى التبيان صلى النبى عليه السلام على عمه حمزة سبعين تكبيرة او صلاة انتهى - روى - ان ابا بكر رضى الله عنه صلى على فاطمة رضى الله عنها وكبر اربعا وهذا احد ما استدل به فقهاء الحنفية على تكبيرات الجنازة اربع كما فى انوار المشارق.
قال فى اسباب النزول ما حاصله ان حمزة رضى الله عنه قتله وحشى الحبشى وكان غلاما لجبير بن مطعم بن عدى بن نوفل وكان عمه طعيمة بن عدى قد اصيب يوم بدر فلما سارت قريش الى احد قال له جبير ان قتلت حمزة عم محمد لعمى طعيمة فانت عتيق فأخذ الوحشى حربته فقذفه بها وكانت لا تخطئ حربة الحبشة حين قذفوا فكان ما كان
"ثم اسلم الوحشى وقال له صلى الله عليه وسلم هل تستطيع ان تغيب عنى وجهك" وذلك انه عليه السلام كرهه لقتله حمزة فخرج فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج الناس الى مسيلمة الكذاب قال الوحشى لاخرجن الى مسيلمة لعلى اقتله فاكافئ به حمزة فخرج مع الناس فوفقه الله لقتله. ثم ان القتلى لما دفنوا وفرغ منهم نزلت هذه الآية فكفر عليه السلام عن يمينه وكفه عما اراده والامر وان دل على اباحة المماثلة فى المثلة من غير تجاوز لكن فى تقييده بقوله { وان عاقبتم } حث على العفو تعريضا.
قال فى البحر العلوم لا خلاف فى تحرير المثلة وقد وردت الاخبار بالنهى عنها حتى الكلب العقور { ولئن صبرتم } اى عن المعاقبة بالمثل وعفوتم وهو تصريح بما علم تعريضا { لهو } اى لصبركم هذا { خير } لكم من الانتصار بالمعاقبة اى العفو خير للعافين من الانتقام وانما قيل { للصابرين } مدحا لهم وثناء عليهم بالصبر وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم
"بل نصبر يا رب"
قال فى الخلاصة رجل قال لآخر يا خبيث هل يقول له بلى أنت الاحسن ان يكف عنه ولا يجيب ولو رفع الامر الى القاضى ليؤديه يجوز ومع هذا لو اجاب لا بأس به. وفى مجمع الفتاوى لو قال لغيره يا خبيث فجازاه بمثله جاز لانه انتصار بعد الظلم وذلك مأذون فيه قال الله تعالى { ولمن انتصر بعد ظلمه فاولئك ما عليهم من سبيل } والعفو افضل قال الله تعالى { فمن عفا واصلح فاجره على الله } وان كانت تلك الكلمة موجبة للحد لا ينبغى ان يجيبه بمثله تحرزا عن ايجاب الحد على نفسه. وفى تنوير الابصار للامام التمر تاشى ضرب غيره بغير حق وضرب المضروب يعزران ويبدأ باقامة التعزير بالبادى انتهى.
ثم امر به صلى الله عليه وسلم صريحا لانه اولى الناس بعزائم الامور لزيادة علمه بشؤونه تعالى ووفود وثوقه به فقيل { واصبر } على ما اصابك من جهتهم من فنون الآلام والأذية وعاينت من اعراضهم عن الحق بالكلية وصبره عليه السلام مستتبع لاقتداء الامة كقول من قال لابن عباس رضى الله عنهما عند التعزية اصبر نكن بك صابرين فانما صبر الرعية عند صبر الرأس { وما صبرك الا بالله } بتوفيق الله واعانته لك على الصبر لان الصبر من صفات الله ولا يقدر احد ان يتصف بصفاته اى الا به بان يتحلى بتلك الصفة.
قال جعفر الصادق رضى الله عنه امر الله انبياءه بالصبر وجعل الحظ الاعلى منه للنبى صلى الله عليه وسلم حيث جعل صبره بالله لا بنفسه وقال { وما صبرك الا بالله } { ولا تحزن عليهم } اى على الكافرين بوقوع اليأس من ايمانهم بك ومتابعتهم لك نحو { فلا تأس على القوم الكافرين } { ولا تك } اصله لا تكن حذفت النون تخفيفا لكثرة استعماله بخلاف لم يصن ولم يخن ونحوهما ومعنى كثرة الاستعمال انهم يعبرون بكان ويكون عن كل الافعال فيقولون كان زيد يقول وكان زيد يجلس فان وصلت بساكن رددت النون وتحركت نحو
{ ومن يكن الشيطان } و { لم يكن الذين } الآية { فى ضيق } اى لا تكن فى ضيق صدر من مكرهم فهو من الكلام المقلوب الذى يسجع عليه عند امن الالتباس لان الضيق وصف فهو يكون فى الانسان ولا يكون الانسان فيه. وفيه لطيفة اخرى وهى ان الضيق اذا عظم وقوى صار كالشئ المحيط به من جميع الجوانب { مما يمكرون } اى من مكرهم بك فيما يستقبل فاول نهى عن التأثم بمطلوب من قبلهم فات والثانى عن التأثم بمحذور من جهتهم آت.