التفاسير

< >
عرض

وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ
٦٨
ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٦٩
-النحل

روح البيان في تفسير القرآن

{ واوحى ربك } يا محمد { الى النحل } هو ذباب العسل وزنبوره اى الهمها وقذف فى قلوبها وعلمها بوجه لا يعلمه الا هو مثل قوله { بان ربك اوحى لها } والوحى يقع على كل تنبيه خفى والله تعالى ألهم كل حيوان ان يلتمس منافعه ويجتنب مضاره وقد الهم الله الغراب ان يبحث فى الارض ليرى قابيل كيف يوارى سوءة اخيه هابيل: كما فى المثنوى

بس بجنكال اززمين انكيخت كرد زود زاغ مرده را دركور كرد
دفن كردش بس بيوشيدش بخاك زاغ از الهام حق بد علمناك

قال الزجاج سميت نحلا لان الله تعالى نحل الناس العسل الذى يخرج منها إذ النحلة العطية وكفاها شرفا قول الله تعالى { واوحى ربك الى النحل } وكل ذباب فى النار الا ذباب العسل قال فى عجائب المخلوقات يقال ليوم عيد الفطر يوم الرحمة وفي اوحى ربك الى النحل صنعة العسل. قال فى حياة الحيوان يحرم اكل النحل. وان كان العسل حلالا كالآدمية لبنها حلال ولحمها حرام ويكره قتلها واما بيعها فى الكوارة فصحيح ان يشاهد جميعها والا فهو بيع غائب فان باعها وهى ظاهرة. ففى التتمة يصح. وفى التهذيب عكسه. وقال ابو حنيفة لا يصح بيع النحل كالزنبور وسائر الحشرات ويجوز بيع دود القز من الذى يصنع به { ان اتخذى } لنفسك اى بان اتخذى فان مصدرية وصيغة التأنيث لان النحل يذكر ويؤنث { من الجبال } [ازشكاف كوهها]{ بيوتا } [خانه هاى مسدس] اى مساكن تأوى اليها وسمى ما تبينه لتعسل فيه بيتا تشبيها ببناء الانسان لما فى بيوته المسدسة المتساوية بلا بركار ومسطر من الحذاقة وحسن الصنعة التى لا يقوى عليها حذاق المهندسين الا بآلات وانظار دقيقة واختارت المسدس لانه اوسع من المثلث والمربع والمخمس ولا يبقى بينهما فرج خالية كما تبقى بين المدورات وما سواها من المضلعات ومن للتبعيض لانها لا تبنى فى كل جبل وكذا قوله { ومن الشجر } لانها لا تبنى فى كل شجر. والمعنى بالفارسية [وازميان درخاتن نيز خانه كيريد يعنى در بعضى شجر جاى كنيد درجانب كوه وقتى كه مالكى وصاحبى نداشته باشد] وكذا فى قوله { ومما يعرشون } لانها لا تبنى فى كل ما يعرشه الناس اى يرفعه من الاماكن لتعسل فيها وهذا اذا كان لملاك. وقال بعضهم ومما يعرشون من كرم أو سقف او جدران او غير ذلك ولما كان اهم شئ للحيوان بعد الراحة من هم المقيل الا كل ثنى به ولما كان عاما فى كل ثمر ذكره بحرف التراخى اشارة الى عجيب الصنع فى ذلك وتيسره لها فقال{ ثم كلى } واشارة الى كثرة الرزق بقوله { من كل الثمرات } فهو للتكثير كقوله تعالى { وأوتيت من كل شيء } أو من كل الثمرات المشتهاة عندك من حلوها وحامضها ومرها وغير ذلك فهو عام مخصوص بالعادة { فاسلكى } جواب شرط محذوف اى فاذا اكلت الثمار فى المواضع البعيدة من بيوتك فادخلى { سبل ربك } فى الجبال وفى خلال الشجر اى طرق ربك التى الهمك وعرفك الرجوع فيها الى مكانك من الخلية بعد بعدك عنها حال كون السبل { ذللا } جمع ذلول اى موطأة للسلوك مسهلة وذلك انها اذا اجدب عليها ما حولها سافرت الى المواضع البعيدة فى طلب النجعة ثم ترجع الى بيوتها من غير التباس وانحراف واشارة باسم الرب الى انه لولا عظيم احسانه فى تربيتها لما اهدت الى ذلك وهذا كما يقال فى القطا وهو طائر معروف يضرب به المثل فى الهداية ويقال "اهدى من قطاة" وذلك انه يترك فراخه ثم يطلب الماء من مسيرة عشرة ايام واكثر فيرده فيما بعد طلوع الفجر الى طلوع الشمس ثم يرجع فلا يخطأ لا صادراً ولا وارداً اى ذهاباً واياباً كذا فى شرح الشفاء ثم اتبعه نتيجة ذلك جوابا لمن قال ماذا يكون من هذا كله فقال { يخرج من بطونها } اى بطون النحل بالقيئ { شراب } اى عسل لانه مشروب وذلك ان النحل تأكل الاجزاء اللطيفة الطلية الحلوة الواقعة على اوراق الاشجار والازهار وتمص من الثمرات الرطبة والاشياء العطرة ثم تقيئ فى بيوتها ادخارا للشتاء فينعقد عسلا باذن الله تعالى والى هذا اشار ظهير الفاريابى بقوله

بدان طمع كه دهن خوش كنى زغايت حرص نشسته مترصد كه فى كند زنبور

واما قول على رضى الله عنه فى تحقير الدنيا اشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة واشرف شرابه رجيع نحلة فوارد على طريق التقبيح وان كان العسل فى نفسه ما يستلذ ويستطاب على ان اطلاق الرجيع عليه انما هو لكونه مما يحويه البطن. وفى حياة الحيوان قد جمع الله تعالى فى النحل السم والعسل دليل على كمال قدرته واخرج منها العسل ممزوجا بالشمع وكذلك عمل المؤمن ممزوج بالخوف والرجاء وهى تأكل من كل الشجرة لا يخرج منها الا حلو اذ لا يغيرها اختلاف مآكلها والبلد الطيب يخرج نباته باذن ربه: وفى المثنوى

اين كه كرمناست وبالاميرود وحيش از زنبور كى كمتر بود
جونكه اوحى الرب الى النحل آمدست خانة وحيش براز حلوا شدست
او بنور وحى حق عز وجل كرد عالم را براز شمع وعسل

وللعسل اسماء كثيرة. منها الحافظ الامين لانه يحفظ ما يودع فيه فيحفظ الميت ابدا واللحم ثلاثة أشهر والفاكهة ستة اشهر وكل ما اسرع اليه الفساد اذا وضع فى العسل طالت مدة مقامه وكان عليه السلام يحب الحلواء والعسل. قال العلماء المراد بالحلواء ههنا كل حلو وذكر العسل بعدها تنبيها على شرفه ومزيته وهو من باب ذكر الخاص بعد العام وفيه جواز اكل لذيذ الاطعمة والطيبات من الرزق وان ذلك لا ينافى الزهد والمراقبة لا سيما اذا حصل انفاق وفى الحديث "اول نعمة ترفع من الارض العسل" . وقال على رضى الله عنه انما الدنيا ستة اشياء مطعوم ومشروب وملبوس ومركوب ومنكوح ومشموم. فاشرف المطعومات العسل وهو مذقة ذباب. واشرف المشروبات الماء يستوى فيه البر والفاجر. واشرف الملبوسات الحرير وهو نسيج دودة. واشرف المركوبات الفرس وعليه يقتل الرجال. واشرف المشمومات المسك وهو دم حيوان. واشرف المنكوحات المرأة وهى مبال فى مبال { مختلف الوانه } من ابيض واخضر واصفر واسود بسبب اختلاف سن النحل فالابيض يلقيه شباب النحل والاصفر كهولها والاحمر شيبها وقد يكون الاختلاف بسبب اختلاف لون النور.
قال حكيم يونان لتلامذته كونوا كالنحل فى الخلايا وهى بيوتها قالوا وكيف النحل فى خلاياها قال انها لا تترك عندها بطالا الا نفته واقصته عن الخلية لانه يضيق المكان ويفنى العسل وانما يعمل النشيط لا الكسل. وعن ابن عمر رضى الله عنهما مثل المؤمن كالنحلة تأكل طيبا وتصنع طيبا ووجه المشاهبة بينهما حذق النحل وفطنته وقلة اذاه ومنفعته وتنزهه عن الاقذر وطيب اكله وانه لا يأكل من كسب غيره وطاعته لا ميره وان للنحل آفات تقطعه عن عمله منها الظلمة والغيم والريح والدخان والماء والنار وكذلك المؤمن له آفات تغيره عن عمله ظلمة الغفلة وغيم الشك وريح الفتنة ودخان الحرام وماء السفه ونار الجوى { فيه } اى فى الشراب وهو العسل { شفاء للناس } اى شفاء الاوجاع التى يعرف شفاؤها منه يعنى انه من جملة الاشفية المشهورة النافعة لامراض الناس وليس المراد انه شفاء لكل مرض كما قال فى حياة الحيوان. قوله { فيه شفاء للناس }. لا يقتضى العموم لكل علة وفى كل انسان لانه نكرة فى سياق الاثبات بل المراد انه يشفى كما يشفى غيره من الادوية فى حال دون حال وكان ابن مسعود وابن عمر رضى الله عنهم يحملانه على العموم. قال البيضاوى { فيه شفاء للناس } اما بنفسه كما فى الامراض البلغمية او مع غيره كما فى سائر الامراض اذ قلما يكون معجون الا والعسل جزؤ منه واما السكر فمختص به بعض البلاد وهو محدث ولم يكن فيما تقدم من الازمان يجعل فى الاشربة والادوية الا العسل - روى -
"ان رجلا جاء الى النبى صلى الله عليه وسلم فقال ان اخى قد اشتكى بطنه فقال اسقه عسلا فسقاه عسلا فما زاده الا استطلاقا فعاد الى النبى عليه الصلاة والسلام فذكر له ذلك فقال اسقه عسلا فسقاه ثانيا فما زاد الا استطلاقا ثم رجع فقال يا رسول الله سقيته فما نفع فقال اذهب فاسقه عسلا فقد صدق الله وكذب بطن اخيك فسقاه فشفاه الله فبرئ كانما نشط من عقال" وفى الحديث "ان الله جعل الشفاء فى اربعة الحبة السوداء والحجامة والعسل وماء السماء" وجاء رجل الى على بن ابى طالب كرم الله وجهه وشكا له سوء الحفظ فقال أترجع الى اهل قال نعم فقال قل لها تعطيك من مهرها درهمين عن طيب نفس فاشتر بهما لبنا وعسلا واشربهما مع شربة من ماء المطر على الريق ترزق حفظا. فسئل الحسن بن الفضل عن هذا فقال اخذه من قوله تعالى { وانزلنا من السماء ماء مباركا } وفى اللبن { خالصا سائغا للشاربين } وفى العسل { فيه شفاء للناس } وفى المهر { فكلوه هنيئاً مريئاً } فاذا اجتمعت البركة والشفاء والهنيئ والمريئ والخالص السائغ فلا عجب ان ينفع - روى - عن عوف بن مالك انه مرض فقال ائتونى بماء فان الله تعالى قال { وانزلنا من السماء ماء مباركا } ثم قال ائتونى بعسل وقرأ الاية ثم قال ائتونى بزيت من شجرة مباركة فخلط ثم شربه فشفى. وكان بعضهم يكتحل بالعسل ويتداوى به من كل سقم واذا خلط العسل الذى لم يصبه ماء ولا نار ولا دخان بشئ من المسك واكتحل به نفع من نزول الماء فى العين والتلطخ به يقتل القمل. والمطبوخ منه نافع للسموم ولعقه علاج لعضة الكلب. قال امام الاولياء محمد بن على الترمذى قدس سره انما كان العسل شفاء للناس لان النحل ذلت لله مطيعة واكلت من كل الثمرات حلوها ومرها محبوبها ومكروهها تاركة لشهواتها فلما ذلت لامر الله صار هذا الا كل كله لله فصار ذلك شفاء للاسقام. فكذلك اذ اذل العبد لله مطيعا وترك هواه صار كلامه شفاء للقلوب السقيمة انتهى.
وفى العسل ثلاثة اشياء الشفاء والحلاوة واللبن. وكذلك المؤمن قال الله تعالى
{ ثم تلين جلودهم وقوبهم الى ذكر الله } ويخرج من الشاب خلاف ما خرج من الكهل والشيخ كذلك حال المقتصد والسابق. وعن ابن مسعود رضى الله عنه العسل شفاء من كل داء اى فى الابدان والقرآن شفاء فما فى الصدور فعليكم بالشفاءين القرآن والعسل

ريح اكر بسيار شد كى غم خورم جون شفاوى جان بيمارم تويى

{ ان فى ذلك } اى فى امر نحل العسل { لآية } حجة ظاهرة دالة على القدرة الربانية { لقوم يتفكرون } اى للذين تفكروا فعلموا ان النحلة على صغر جسمها وضعف خلقتها لا تهتدى لصنعة العسل بنفسها فان ذلك بصانع صنعها خالف بينها وبين غيرها من الحشرات الطائرة فاستدل بذلك على خالق واحد قادر لا شريك له ولا شبيه. قال الكاشفى { لقوم يتفكرون } [مر كروهى را كه تفكر كنند داراختصاص بصنايع دقيقه وامور رقيقه وهر آينه اينها بوجود نكيرد الااز الهام توانايى ودانايى كه جندين حكمت درجانورى ضعيف وديعت نهد انقيادى دارند كه ازراه فرمان منحرف نشوند امانتى كه ميؤه تلخ خورند وعسل شيرين بازهند ورعى كه جز باك وبا كيزه نخورند طاعتى كه هركز خلاف فرمان نكنند تمكنى كه فرسنكها بروندوباز با وطن خود رجوع نمايند طهارتى كه هركز برقازورات ننشينند وازان نخورند وصناعتى كه اكر همه بنايان عالم جميع شوند همجو خانهاى مسدس ايشان نتوانند ساخت بس همجنانجه ازعسل ايشان شفاى الم ظاهر حاصل شود ازتفكر احوال ايشان شفاء مرض باطن كه جهلست دست دهد]

فكر دلرانيك وهم نمكين كند كام جانرا جون عسل شيرين كند
شربت فكر اربكام جان رسد جاشنئ آن بماند تاابد

قال القشيرىرحمه الله ان الله تعالى اجرى سنته ان يخفى كل عزيز فى شئ حقير جعل الابريسم فى الدود وهو اصغر الحيوانات واضعفها والعسل فى النحل وهو اضعف الطيور وجعل الدر فى الصدف وهو اوحش حيوان من حيوانات البحر واودع الذهب والفضة والفيروزج فى الحجر وكذلك اودع المعرفة والمحبة فى قلوب المؤمنين وفيهم من يخطى وفيهم من يعصى ومنهم من يعرف ومنهم من يجعل امره

كسى راكه نزديك ظنت بداوست ندانى كه صاحب ولايت هم اوست

قال فى التأويلات النجمية فى الآية اشارة الى ان تصرف كل حيوان فى الاشياء مع كثرتها واختلاف انواعها انما هو بتعريف الله تعالى اياه والهامه على قانون حكمته وارادته القديمة لا من طبعه وهواه.وانما خص النحل بالوحى وهو الالهام والرشد من بين سائر الحيونات لانها اشبه شئ بالانسان لا سيما باهل السلوك فان من دأبهم وهجيراهم ان يتخذوا من الجبال بيوتا اعتزالا عن الخلق وتبتلا الى الله تعالى كما كان حال النبى صلى الله عليه وسلم حيث كان يتحنث الى حراء اسبوعا واسبوعين وشهرا وان من شأنهم النظافة فى الموضع والملبوس والمأكول كذلك النحل من نظافتها تضع ما فى بطنها على الحجر الصافى او على خشب نظيف لئلا يخالطه طين او تراب ولا تقعد على جيفة ولا على نجاسة احترازا عن التلوث كما يحترز الانسان عنه وثمرات البدن الاعمال الصالحة وثمرات النفوس الرياضات والمجاهدات ومخالفات الهوى وثمرات القلوب ترك الدنيا وطلب العقبى والتوجه الى حضرة المولى وثمرات الاسرار شواهد الحق والتطلع على الغيوب والتقرب الى الله فهذه كلها اغذية الارواح والله تعالى قال للنحل { كلى من كل الثمرات } وقال مثله للسالكين { كلوا من الطيبات واعملوا صالحا }.