التفاسير

< >
عرض

وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٧٨
-النحل

روح البيان في تفسير القرآن

{ والله } تعالى وحده { اخرجكم من بطون امهاتكم } جمع الام زيدت الهاء فيها كما زيدت فى الاهراق من اراق { لا تعلموا شيئًا } اى حال كونكم غير عالمين شيئًا اصلا من امور الدنيا والآخرة ولا مما كانت ارواحكم تعلم فى عالم الارواح ولا مما كانت ذرياتكم تعلم من فهم خطاب ربكم اذ قال ألست بربكم ولا مما علمت اذ قالت بالجواب بلى ولامما تعلم الحيوانات حين ولادتها من طلب غذائها ومعرفة امها والرجوع اليها والاهتداء الى ضروعها وطريق تحصيل اللبن منها ومشيها خلفها وغير ذلك مما تعلم الحيوانات وتهتدى اليه ولا يعلم الطفل منه شيئًا ولا يهتدى اليه قال الشيخ سعدى قدس سره

مرغك از بيضه برون آيدوروزى طلبد آدمى بجه ندارد خبر وعقل وتميز

{ وجعل لكم السمع } قدمه على البصر لما انه طريق تلقى الوحى ولذا ابتلى بعض الانبياء بالعمى دون الصمم او لان ادراكه اقدم من ادراك البصر ألا ترى ان الوليد يتأخر انفتاح عينيه عن السمع وافراده باعتبار كونه مصدرا فى الاصل { والابصار } جمع بصر وهى محركة حسن العين { والافئدة } جمع فؤاد وهو وسط القلب وهو من القلب كالقلب من الصدر وهو من جموع القلة التى جرت مجرى جموع الكثرة. قال فى بحر العلوم استعملت فى هذه الآية وفى سائر آيات وردت فيها فى الكثرة لان الخطاب فى جعل لكم وانشأ لكم عام. والمعنى جعل لكم هذه الاشياء آلات تحصلون بها العلم والمعرفة بان تحسوا بمشاعركم جزئيات الاشياء وتدركوها بأفئدتكم وتتنهوا لما بينها من المشاركات والمباينات بتكرر الاحساس فيحصل لكم علوم بديهيه تتمكنوا بالنظر فيها من تحصل العلوم الكسبية.
واعلم ان قوله وجعل عطف على اخرجكم وليس فيه دلالة على تأخر الجعل المذكور عن الاخراج لماان مدلول الواو هو الجمع مطلقا لا الترتيب على ان اثر ذلك الجعل لا يظهر قبل الاخراج كما فى الارشاد. التحقيق ان لله تعالى صفات سبعا مرتبة وهى الحياة والعلم والارادة والقدرة والسمع والبصر والكلام واذا قلب الكلام يصير كمالا فآخر الكمال الكلام كما ان اول الكمال الكلام لان اول التعينات الالهية هى الهوية الذاتية وآخرها الكلام مطلقا وعلى هذا يدور الامر فى المظهر الانسانى ألا ترى ان اول ما يبدو فى الجنين حسن السمع ثم البصر ثم الكلام ولذا حرم تزوج الحبلى من النكاح اتفاقا ومن الزنى اختلافا لما قال عليه السلام
"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر لا يسقين ماءه زرع غيره" . فان قيل فم الرحم منسد بالحبل فكيف يوجد سقى الزرع. قلنا قد جاء فى الخبر (ان سمع الحمل وبصره يزداد حده بالوطئ) فظهر ان آخر ما يظهر بعد الولادة هو الكلام ومقتضى مقام الامتنان ان هذه القوى انما تظهر آثارها بعد الاخراج من بطون الامهات وهذا لا ينافى حصولها قبله بالقوة القريبة من الفعل { لعلكم تشكرون } ارادة ان تشكرواهذه الآلات وشكرها استعمالها فيما خلقت لاجله من استماع كلام الله واحاديث رسول الله وحكم اوليائه وما ليس فيه ارتكاب منهى ومن النظر الى آيات الله والاستدلال بها على وجوده ووحدته وعلمه وقدرته فمن استعملها فى غير ما خلقت له فقد كفر جلائل نعم الله تعالى وخان فى اماناته: قال الشيخ السعدى قدس سره

كذر كاه قرآن وبندست كوش به بهتان وباطل شنيدن مكوش
دوجثم ازبى صنع بارى نكوست زعيب برادر فرو كيرو دوست

وقال الصائب

ترابكوا هردل كرده اند امانتدار زدزد امانت حق را نكاهد ار مخسب

وفى التأويلات النجمية { وجعل لكم السمع والابصار والافئدة } لاجسادكم كما جعل للحيوانات لتسمعوا بها وتبصروا وتفهموا ما يسمع الحيوان ويبصر ويفهم وجعل لارواحكم سمعا تسمعون به ما تسمع الملائكة وبصرا تبصرون به ما تبصر الملائكة وفؤادا تفهمون به ما تفهم الملائكة وجعل لاسراركم سمعا تسمعون بالله وبصرا تبصرون بالله وفؤادا تعرفون بالله وهذه الحواس مستفادة من قوله تعالى "كنت له سمعا وبصرا ولسانا فبى يسمع وبى يبصر وبى ينطق" { لعلكم تشكرون } بهذه الآلات نعم الله واداء شكر نعم الله باستعمالها وصرفها فى طلب الله وترك الالفتات الى النعم بل للمنعم.
وفى الآية اشارة اخرى والله اخرجكم من بطون امهاتكم اى من العدم وهو الام الحقيقى لا تعلمو شيئًا قبل ان يعلمكم الله اسماء كل شئ وجعل لكم السمع والابصار والافئدة حين خاطبكم بقوله ألست بربكم فتجلى لكم بربوبيته فبنور سمعه اعطاكم لسانا تجيبونه بقولكم بلى لعلكم تشركون فلا تسمعون بهذا السمع الا كلامه ولا تبصرون بهذا البصر الاجماله ولا تحبون بهذا الفؤاد الا ذاته ولا تكلمون بهذا اللسان الا معه.