التفاسير

< >
عرض

وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
٩
هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ
١٠
يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ ٱلزَّرْعَ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
١١
-النحل

روح البيان في تفسير القرآن

{ وعلى الله قصد السبيل } القصد مصدر بمعنى الفاعل يقال سبيل قصد وقاصد اى مستقيم على نهج اسناد حال سالكه اليه كأنه يقصد الوجه الذى يؤمه السالك لا يعدل عنه والمراد بالسبيل الطريق بدليل اضافة القصد اليه اى حق عليه سبحانه بموجب رحمته ووعده المحتوم لا واجب اذ لا يجب عليه شئ من بيان الطريق المستقيم الموصل لمن يسلكه الى الحق الذى هو التوحيد بنصب الادلة وارسال الرسل وانزال الكتب لدعوة الناس اليه { ومنها } فى محل الرفع على الابتداء اما باعتبار مضمونه واما بتقدير الموصوف اى بعض السبيل او بعض من السبيل فانها تذكر وتؤنث. قال ابن الكمال الفرق بين الطريق والصراط والسبيل انها متساوية فى التذكير والتأنيث اما فى المعنى فبينهما فرق لطيف وهو ان الطريق كل ما يطرقه طارق معتادا كان او غير معتاد والسبيل من الطرق ما هو معتاد السلوك والصراط من السبيل مالا التواء فيه اى لا اعوجاج بل يكون على سبيل القصد فهو اخص { جائر } اى مائل عن الحق منحرف عنه لا يوصل سالكه إليه وهو طريق الضلال التى لا يكاد يحصى عددها المندرج كلها تحت الجائر كاليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر ملل الكفر واهل الاهواء والبدع ومن هذا علم ان قصد السبيل هو دين الاسلام والسنة والجماعة جعلنا الله واياكم على قصد السبيل وحسن الاعتقاد والعمل وحفظنا واياكم من الجائر والزيغ والزلل.
قال مرجع طريقة الجلوتية بالجيم اعنى حضرة الشيخ محمود هدايى الاسكدارى قدس سره رأيت صور اعلام اهل الاديان فى مبشرتى ليلة الاثنين والعشرين من جماد الآخرة لسنة اثنتي عشرة والف وهى هذه- هذا علم اهل الايمان وصورة استمدادهم من الحق تعالى بالتوجه الى العلو اقتداء بمن قال فى حقه المولى الاعلى ما زاغ البصر وما طغى 88- هذا علم النصارى وصورة انحرافهم عن الحق 88- هذا علم اليهود وصورة انحرافهم عن الحق اكتفاء بالقلب انتهى { ولو شاء لهديكم اجمعين } اى ولو شاء الله ان يهديكم الى ما ذكر من التوحيد هداية موصلة اليه البتة مستلزمة لاهتدائكم اجميعن لفعل ذلك ولكن لم يشأ لان مشيئته تابعة للحكمة الداعية اليها ولا حكمة فى تلك المشيئة لما ان مدار التكليف والثواب والعقاب انما هو الاختيار الجزئى الذى يترتب عليه الاعمال التى بها نيط الجزاء.
وقال ابو الليث فى تفسيره لو علم الله ان الخلق كلهم اهل للتوحيد لهداهم انتهى.
يقول الفقير هو معنى لطيف مبنى على ان العلم تابع للمعلوم فلا يظهر من الاحوال الا ما اعطته الاعيان الى العلم الالهى كالايمان والكفر والطاعة والعصيان والنقصان والكمال فمن كان مقتضى ذاته الايمان والطاعة والكمال وكان اهلالها فى عالم عينه الثابتة اعطاها للعلم فشاء الله هدايته فى هذه النشأة بحكمته ومن كان مقتضى استعداده خلاف لم يشأ الله هدايته حين النزول الى مرتبة وجوده العنصرى والالزم التغير فى علم الله تعالى وهو محال وفى الحديث
"انما انا رسول وليس الى شئ من الهداية ولو كانت الهداية الىّ لآمن كل من الارض وانما ابليس مزين وليس له من الضلالة شيء ولو كانت الضلالة اليه لأضل كل من فى الارض ولكن الله يضل من يشاء" كذا فى تقليح الاذهان قال الحافظ

مكن بجشم حقارت ملامت من مست كه نيست معصيت وزهد بى مشيت او

وقال

درين جمن نكم سرزنش بخود رويى جنانكه برورشم مى دهند ومى رويم

وقال

رضا بداده بده وزجبين كره بكشاى كه برمن وتو در اختيار نكشادست

فعليك بترك القيل والقال ورفض الاعتزال والجدال فان الرضى والتسليم سبب القبول وخلافه يؤدى الى غصب الحبيب المقبول - يحكى - عن حضرة الشيخ الاكبر قدس سره الاطهر انه قال اقمت بمدينة قرطبة بمشهد فارانى الله اعيان رسله عليهم السلام من لدن آدم الى نبينا عليه الصلاة والسلام فخاطبنى منهم هود عليه السلام واخبرنى فى سبب جمعيتهم وهو انهم اجتمعوا شفعاء للحلاج الى نبينا عليه الصلاة والسلام وذلك انه كان قد اساء الادب بان قال فى حياته الدنيوية ان رسول الله صلى الله عليه وسلم همته دون منصبه قيل له ولم ذلك قال لان الله تعالى قال { ولسوف يعطيك ربك فترضى } وكان من حقه لا يرضى الا ان يقبل الله تعالى شفاعته فى كل كافر ومؤمن لكنه ما قال الا "شفاعتى لاهل الكبائر من امتى" فلما صدر منه هذا القول جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى واقعة وقال له يا منصور انت الذى انكرت على الشفاعة فقال يا رسول الله قد كان ذلك فقال ألم تسمع اننى حكيت عن ربى عز وجل "اذا احببت عبدا كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا" فقال بلى يا رسول الله فقال "أو لم تعلم انى حبيب الله" قال بلى يا رسول الله قال فاذا كنت حبيب الله كان هو لسانى القائل فاذا هو الشافع والمشفوع اليه وانا عدم فى وجوده فأى عتاب علىّ يا منصور فقال يارسول الله "انا تائب من قولى هذا فما كفارة ذنبى" قال قرب نفسك لله قربانا فاقتل نفسك بسيف شريعتى فكان من امره ما كان ثم قال هود عليه السلام وهو من حيث فارق الدنيا محجوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والآن هذه الجمعية لاجل الشفاعة له الى رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى.
يقول الفقير سامحه الله القدير فى هذه القصة امران احدهما عظم شأن الحلاج قدس سره بدلالة عظم شأن الشفعاء والثانى انه قتل فى بغداد فى آخر سنة ثلاثمائة وتسع ومات حضرة الشيخ الاكبر بالشام سنة ثمان وثلاثين وستمائة فبينهما من المدة ثلاثمائة وتسع وعشرون سنة والظاهر والله اعلم ان روح الحلاج كان محجوبا عن روح رسول الله صلى الله عليه وسلم اكثر من ثلاثمائة سنة تقريبا وذلك سبب كلمة صدرت منه على خلاف الادب فان من كان على بساط القرب والحضور ينبغى ان يراعى الادب فى كل امر من الامور فما ظنك بمن جاوز حد الشريعة ورخص نظم القرآن ومعانيه اللطيفة وعمل بالخيالات والاوهام فليس اولئك الا كالانعام نسأل الله العافية والعفو والانعام { هو الذى انزل } بقدرته القاهر { من السماء } الى السحاب ومنه الى الارض{ ماء } نوعا منه وهو المطر. وفى بحر العلوم تنكيره للتبعيض اى بعض الماء فأنه لم ينزل من السماء الماء كله { لكم منه } اى من ذلك الماء المنزل { شراب } اى ما تشربونه والظرف الاول وهو لكم خبر مقدم لشراب والثانى حال منه ومن تبعيضية { ومنه شجر }من ابتدائية اى ومنه وبسببه يحصل شجر ترعاه المواشى والمراد به ما ينبت من الارض سواء كان له ساق اولا وفى حديث عكرمة { لا تأكلون ثمن الشجر فانه سحت } يعني الكلأ وهو بالقصر ما رعته الدواب من الرطب واليابس وانما كان ثمنه سحتا لما فى حديث آخر
"الناس شركاء فى ثلاث الماء والكلأ والنار" اى فى اصطلائها وضوئها لا فى الجمر كما ان المراد بالماء ماء الانهار والآبار لا الماء المحرز فى الظروف والحيلة فيه ان يستأجر موضعا من الارض ليضرب فيه فسطاطا او ليجعله حظيره لغنمه فتصح الاجارة ويبيح صاحب المرعى الانتفاع له بالرعى فيحصل مقصودها كذا فى الكافى ويجوز بيع الاوراق على الشجرة لا بيع الثمرة قبل ظهورها والحيلة فى ذلك بيعها مع الاوراق اول ما تخرج من وردها فيجوز البيع فى الثمر تبعا للبيع فى الاوراق كما فى انوار المشارق { فيه تسيمون } الاسامة بالفارسية { بيرون هشتن رمه بجرا } يقال سامت الماشية رعت واسمامها صاحبها من السومة بالضم وهى العلامة لانها تؤثر بالرعى علامات فى الارض اى ترعون مواشيكم قدم الشجر لحصوله بغير صنع من البشر ثم استأنف اخبار عن منافع الماء فقال لمن قال هل له منفعة غير ذلك { ينبت } الله تعالى { لكم } لمصالحكم ومنافعكم{ به } اى بما انزل من السماء{ الزرع } الذى هو اصل الاغذية وعمود المعاش.
قال الكاشفى [مراد حبوب غاذيه است كه زراعت ميكنند }. قال في بحر العلوم الزرع كل ما استنبت بالبذر مسمى بالمصدر وجمع زروع. قال كعب الاحبار لما اهبط الله تعالى آدم جاء ميكائيل بشئ من حب الحنطة وقال هذا رزقك ورزق اولادك قم فاضرب الارض وابذر البذر قال ولم يزل الخب من عهد آدم الى زمن ادريس كبيضة النعام فلما كفر الناس نقص الى بيضة الدجاج ثم الى بيضة الحمام ثم الى قدر البندقة ثم الى قدر الحمصة ثم الى المقدار المحسوس الا ان يقال ان البوم لا يأكل الحنطة ولا يشرب الماء اما الاول فلان آدم عصى بالحنطة ربه واما الثانى فلان قوم نوح اهلكوا بالماء { والزيتون } الذى هو ادام من وجه وفاكهة من وجه. وقال الكاشفى يعني [درخت زيتون را]. قال فى انسان العيون شجرة الزيتون تعمر ثلاثة آلاف سنة وكان زاده صلى الله عليه وسلم وقت تخليه بغار حراء بالمد والقصر الكعك والزيت وجاء (ائتدموا بالزيت وادهنوا به فانه يخرج من شجرة مباركة) وهى الزيتون وقبل لها مباركة لانها لا تكاد تنبت الا فى شريف البقاع التى بورك فيها كارض بيت المقدس { والنخيل }[وخرما بنانرا] والنخيل والنخل بمعنى واحد وهواسم جمع والواحدة نخلة كالثمرة والثمر وفى الحديث
"اكرموا عمتكم النخلة فانها خلقت من فضل طينة آدم وليس من الشجر شجرة اكرم على الله من شجرة ولدت تحتها مريم ابنة عمران فاطعموا نساءكم الولد الرطب فان لم يكن رطب فتمر" كما فى المقاصد الحسنة { والاعناب } [وتا كهارا] جمع الاعناب للاشارة الى ما فيها من الاشتمال على الاصناف المختلفة. وفيه اشارة الى ان تسمية العنب كرما لم يكن يوضع الواضع ولكنه كان من الجاهيلة كأنهم قصدوا به الاشتقاق من الكرم لكون الخمر المتخذة منه تحت على الكرم والسخاء فنهى النبى عليه السلام عن ان يسموه بالاسم الذى وضعه الجاهلية وامرهم بالتسمية اللغوية بوضع الواضع حيث قال "لا تقولوا الكرم ولكن قولوا العنب والحبلة" ثم بين قبح تلك الاستعارة بقوله (إنما الكرم قلب المؤمن) يعني ان ما ظنوه من السخاء والكرم فانما هو من قلب المؤمن لا من الخمر اذا اكثر تصرفات السكران عن غلبة من عقله فلا يعتبر ذلك العطاء كرما ولا سخاء اذهو في تلك الحالة كصبى لا يعقل السخاء ويؤثر بماله سرفا وتبذيرا فكما لا يحمل ذلك على الكرم فكذا اعطاء السكران كذا فى ابكار الافكار. وخصص هذه الانواع المعدودة بالذكر للاشعار بفضلها وشرفها ثم عمم فقال { ومن كل الثمرات } من تبعضية اى بعض كلها لانه لم يخرج بالمطر جميع الثمرات وانما يكون فى الجنة اى لم يقل كل الثمرات لان كلها لا تكون الا فى الجنة وانما انبت فى الارض من كلها للتذكرة ولعل المراد ومن كل الثمرات التى يحتملها هذه النشأة الدنيوية وترى بها وهى الثمرات المتعارفة عند الناس بانواعها واصنافها فتكون كلمة من صلة كما فى قوله تعالى { يغفر لكم من ذنوبكم } على رأى الكوفية وهو اللائح { ان فى ذلك } اى فى انزال الماء وانبات ما فصل { لآية }عظيمة دالة على تفرده تعالى بالالوهية لاشتماله على كمال العلم والقدرة والحكمة { لقوم يتفكرون } فان من تفكر فى ان الحبة والنواة تقع فى الارض وتصل اليها نداوة تنفذ فيها فينشق اسفلها فيخرج منه عروق تنبسط فى اعماق الارض وينشق اعلاها ان كانت منتكسة فى الوقوع ويخرج منه ساق فينمو ويخرج منه الاوراق والازهار والحبوب والثمار على اجسام مختلفة الاشكال والالوان والخواص والطبائع وعلى نواة قابلة توليد الامثال على النمط المحرر لا الى نهاية مع اتحاد المواد واستواء نسبة الطبائع السفلية والتأثيرات العلوية بالنسبة الى الكل علم ان من هذه افعاله وآثاره لا يمكن ان يشبهه شئ فى شئ من صفات الكمال فضلا عن ان يشاركه اخس الاشياء فى صفاته التى هى الالوهية واستحقاق العبادة تعالى عن ذلك علو كبيرا

روضه جابنخش جانها آفريد بغجه كون ومكانها آفريد
كرد ازهر شاخها كل برك وبار جلوه او نقش ديكر آشكار

والتفكر تصرف القلب فى معانى الاشياء لدرك المطلوب قالوا الذكر طريق والفكر وسيلة المعرفة التى هى اعظم الطاعات.
قال بعضهم الذكر افضل للعامة لما فى الفكر لهم من خوف الوقوع فى الاباطيل وتمكن الشبه عندهم كما يعرض ذلك لكثير من العوام في زماننا والفكر افضل لأرباب العلم عند التمكن من الفكر المستقيم فانهم كلما عرضت لهم شبهة تطلبوا دليلا يزيلها فكان الفكر لهم افضل من الذكر اذا لم يتمكنوا من حصول الفكر البليغ مع الذكر واليه اشار عليه السلام بقوله
"تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة" - روى - ان عثمان رضى الله عنه ختم القرآن فى ركعة الوتر لتمكنه من التدبر والتفكر ولم يبح ذلك لمن لم يتمكن من تدبيره ومعرفة فقهه واجل له مدة يتمكن فيها من ذلك كالثلاثة والسبعة.
والاشارة فى الآية { هو الذى انزل من السماء ماء } الفيض { لكم منه شراب } المحبة لقلوبكم { ومنه شجر } قوى البشرية ودواعيها فيه ترعون مواشى نفوسكم ينبت لغذاء ارواحكم به زرع الطاعات وزيتون الصدق ونخيل الاخلاق الحميدة واعناب الواردات الربانية ومن كل ثمرات المعقولات والمشاهدات والمكاشفات والمكالمات والاحوال كلها { ان فى ذلك لآية لقوم يتفكرون } ينظر العقل فى هذه الصنائع الحكيمة.