التفاسير

< >
عرض

قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَٱرْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصاً
٦٤
فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً
٦٥
-الكهف

روح البيان في تفسير القرآن

{ قال } موسى عليه السلام { ذلك } الذى ذكرت من امر الحوت { ما } اى الذى { كنا نبغ } اصله نبغى والضمير العائد الى الموصول محذوف اى نبغيه ونطلبه لكونه امارة للفوز بالمرام من لقاء الخضر عليه السلام { فارتدا } رجعا من ذلك الموضع وهو طرف نهر ينصب الى البحر { على آثارهما } طريقهما الذى جاآمنه والآثار الاعلام جمع اثر واثر وخرج فى اثره واثره اى بعده وعقبه. وبالفارسية [برنشانهاى قدم خود] { قصصا } مصدر فعل محذوف اى يقصان قصصا اى يتبعان آثارهما اتباعها ويتفحصا تفحصا حتى اتيا الصخرة التى حيى الحوت عندها وسقط فى البحر واتخذ سبيله سربا { فوجدا عبدا } التنكير للتفخيم { من عبادنا } الاضافة للتشريف وكان مسجى بثوب فسلم عليه موسى وعرفه نفسه وافاد انه جاء لاجل التعلم والاستفادة. والجمهور على انه الخضر بفتح الخاء المعجمة وكسر الضاد وهو لقبه وسبب تلقيبه بذلك ما جاء فى الصحيح انه عليه السلام قال "انما سمى الخضر لانه جلس على فروة بيضاء فاذا هى تهتز من خلفه خضراء" الفروة وجه الارض اليابسة وقيل النبات اليابس المجتمع والبيضاء الارض الفارغة لا غرس فيها لانها تكون بيضاء واهتزاز النبات تحركه وكنيته ابو العباس واسمه بلياء بباء موحدة مفتوحة ثم لام ساكنة ثم مثناة تحت ابن ملكان بفتح الميم واسكان اللام ابن فالغ بن عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح.
قال ابو الليث انه عليه السلام ذكر قصة الخضر فقال
"كان ابن ملك من الملوك فاراد ابوه ان يستخلفه من بعده فلم يقبل وهرب منه ولحق بجزائر البحر فلم يقدر عليه" وتفصيله على ما فى كتاب التعريف والاعلام للامام السهيلى وهو ان اباه كان ملكا وان امه كانت بنت فارس واسمها الها وانها ولدته فى مغارة وانه ترك هنالك وشاة ترضعه فى كل يوم من غنم رجل من القرية فاخذه الرجل فرباه فلما شب وطلب الملك ابوه كاتبا وجمع اهل المعرفة والنبالة ليكتب الصحف التى نزلت على ابراهيم وشيث كان فيمن قدم عليه من الكتاب ابنه الخضر وهو لا يعرفه فلما استحسن خطه ومعرفته ونجابته سأله عن جلية امره فعرف انه ابنه فضمه لنفسه وولاه امر الناس ثم ان الخضر فر من الملك وزهد فى الدنيا وسار الى ان وجد عين الحياة فشرب منها.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما الخضر ابن آدم لصلبه ونسئ له فى اجله حتى يكذب الدجال وفيه اشارة الى ان لكل دجال فى كل عصر مكذبا ومبطلا لامره: قال الحافظ

كجاست صوفى دجال فعل ملحد شكل بكوبسوزكه مهدئ دين بناه رسيد

واخرج عن ابن عساكر ان آدم لما حضره الموت اوصى بنيه ان يكون جسده الشريف معهم فى غار فكان جسده فى المغارة معهم فلما بعث الله نوحا ضم ذلك الجسد فى السفينة بوصية آدم فلما خرج منها قال لبنيه ان آدم دعا بطول العمر لمن يدفنه من اولاده الى يوم القيامة فذهب اولاده الى الغار ليدفنوه وكان فيهم الخضر فكان هو الذى تولى دفن آدم فانجز الله ما وعده فهو يجيئ ما شاء الله له ان يحيى.
قال فى فتح القريب ومن اغرب ما قيل انه ابن آدم لصلبه وقيل انه من الملائكة وهذا باطل ومن اعجب ما قيل انه ابن فرعون صاحب موسى كما فى تواريخ مصر وقيل انه ابن خالة ذى القرنين كان فى سفره معه وشرب من ماء الحياة مد الله عمره الى الوقت المعلوم ولا بعد فانه كان من بنى آدم من يعيش ثلاثة آلاف سنة او اكثر وقيل انه ابن عاميل بن شمالخين بن ارما بن علقما بن عيصو بن اسحاق النبى وكان عاميل ملكا.
والجمهور على انه نبى غير مرسل وعند الصوفية المحققين ولى غير نبى واختلفوا فى حياته والاكثر على انه موجود بين اظهرنا وهذا متفق عليه عند الصوفية لان حكاياتهم انهم رأوه فى المواضع الشريفة وكالموه اكثر من ان يحصى نقله الشيخ الاكبر فى الفتوحات الملكية وابو طالب المكى فى كتبه والحكيم الترمذى فى نوادره وغير ذلك من المحققين من سادات الامة الذين لا يتصور اجتماعهم على الكذب والافتراء بمجرد الاخبار النقلية حاشاهم عن ذلك وقد ثبت وجوده فلا يكون عدمه الا بدليل ولا دليل على موته ولا نص فيه من كتاب ولا سنة ولا اجماع ولا نقل انه مات بارض كذا فى وقت كذا فى زمن ملك من الملوك.
وفى تفسير البغوى اربعة من الانبياء احياء الى يوم ا لبعث اثنان من الارض وهما الخضر والياس اى والياس فى البر والخضر فى البحر يجتمعان كل ليلة على ردم ذى القرنين يحرسانه واكلهما الكرفس والكمأة واثنان فى السماء ادريس وعيسى عليهما السلام.
وفى كتاب التمهدي لابى عمر امام الحديث فى وقته ان رسول الله صلى الله علهي وسلم حين غسل وكفن سمعوا قائلا يقول السلام عليكم يا اهل البيت ان فى الله خلفا من كل هالك وعوضا من كل تالف وعزاء من كل مصيبته فعليكم بالصبر فاصبروا واحتسبوا ثم دعا لهم ولا يرون شخصه فكانوا اى الاصحاب واهل البيت يرونه انه الخضر.
وفى كتاب الهواتف ان على بن ابى طالب رضى الله عنه لقى الخضر وعلمه هذا الدعاء وذكر فيه ثوابا عظيما ومغفرة ورحمة لمن قاله فى اثر كل صلاة وهو "يا من لا يشغله سمع عن سمع ويا من لا تغلطه السمائل ويا من لا يتبرم من الحاح الملحين اذقنى برد عفوك وحلاوة مغفرتك".
قال الهروى ان الحضر قد جاء النبى عليه السلام مرارا واما قوله عليه السلام
"لوكان حيا لزارنى" فلا يمنع وقوع الزيارة بعده.
قال فى فصل الخطاب ان الخضر قد صحب النبى عليه السلام وروى عن احاديث
وفى الخصائص الصغرى ان فى غزوة تبوك اجتمع عليه السلام بالياس
"فعن انس رضى الله عنه فغزونا مع النبى عليه السلام حتى اذا كنا بفج الناقة عند الحجر سمعنا صوتا يقول اللهم اجعلنى من امة محمد المرحومة المغفور لها المستجاب لها فقال عليه السلام يا انس انظر ماهذا الصوت فدخلت الجبل فاذا رجل عليه ثياب بياض ابيض الرأس واللحية طوله اكثر من ثلاثمائة ذراع فلما رآنى قال انت رسول النبى عليه السلام قلت نعم قال ارجع اليه واقرئه السلام وقل له هذا اخوك الياس يريد ان يلقاك فرجعت الى النبى عليه السلام فاخبرته فجاء عليه السلام يمشى وانا معه حتى اذا كنا قريبا منه تقدم النبى وتأخرت انا فتحدثا طويلا فنزل عليهما من السماء شئ يشبه السفرة ودعوانى فاكلت معهما قليلا فاذا فيها كمأة ورمان وحوت وتمر وكرفس فلما اكلت قمت فتنحيت ثم جاءت سحابة فاحتملته فانا انظر الى بياض ثيابه فيها تهوى به قبل الشام فقلت للنبى عليه السلام بابى انت وامى هذا الطعام الذى اكلنا من السماء نزل عليه قال عليه السلام سألته عنه فقال يأتينى به جبرائيل فى كل اربعين يوما اكلة وفى كل حول شربة من ماء زمزم وربما رأيته على الجب يملأ بالدلو فيشرب وربما سقانى" والاكثر من المحدثين على وفاة الخضر سئل البخارى عن الخضر والياس هل هما فى الاحياء قال كيف يكون ذلك وقد قال رسول الله عليه السلام "لا يبقى على رأس المائة ممن هو اليوم على وجه الارض احد" وقد قال الله تعالى { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } والجواب ان هذا الحكم جار على الاكثر ولا حكم للنادر الذى يعيش فوق المائة فقد عاش سلمان ومعدى كرب وابو طفيل فوق المائة وكانوا موجودين فى ذلك الزمان عند اخباره عليه السلام والمراد بالخلود هو التأبيد ولا شك ان حياة الخضر وغيره منقطعة عند الصعقة قبل القيامة فيمتنع الخلود. واما من قال من العلماء لا يجوز ان يكون الخضر باقيا لانه لا نبى بعد نبينا فلا عبرة لكلامه لانه لم يتنبأ بعده بل قبله كعيسى ابقاه الله لمعنى وحكمة الى ان يرتفع القرآن من وجه الارض.
وذكر الشيخ الاكبر قدس سره فى بعض كتبه انه يظهر مع اصحاب الكهف فى آخر الزمان عند ظهور المهدى ويستشهد ويكون من افضل شهداء عساكر المهدى.
وفى آخر صحيح مسلم فى احاديث الدجال انه يقتل رجلا ثم يحيى قال ابراهيم بن سفيان صاحب مسلم يقال ان هذا الرجل هو الخضر وعن ابن عباس رضى الله عنهما يلتقى الخضر والياس فى كل عام فى الموسم فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ويتفرقان على هذه الكلمات "بسم الله ما شاء الله لا يسوق الخير الا الله ما شاء الله لا يصرف السوء الا الله ما شاء الله ما كان من نعمة فمن الله ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله" من قالهن ثلاث مرات حين يصبح ويمسى آمنه الله من الحرق والغرق والسرق ومن الشيطان والحية والعقرب.
وزاد احمد فى الزهد انهما يصومان رمضان فى بيت المقدس.
وعن على رضى الله عنه مسكن الخضر بيت المقدس فيما بين باب الرحمة الى باب الاسباط.
قال الشاقانى الخضر كناية على البسط والياس عن القبض واما كون الخضر شخصا انسانا باقيا من زمان موسى الى هذا العهد او روحانيا يتمثل بصورته لمن يرشده فغير متحقق عندى بل قد يتمثل ويتخيل معناه له بالصفة الغالبة عليه ثم يضمحل وهو روح ذلك الشخص او روح القدس انتهى.
يقول الفقير تمثل الروح بالصفة الغالبة قد وقع لكثير من اهل السلوك ولكن ليس كل مرئى فى اليقظة تمثلا كما فى المنام فقد يظهر المثال وقد يظهر حقيقته ولله فى كل شئ حكمة بالغة { آتيناه رحمة من عندنا } هى الوحى والنبوة كما يشعر به تنكير الرحمة واختصاصه بجناب الكبرياء.
قال الامام مسلم ان النبوة رحمة كما قوله تعالى
{ أهم يقسمون رحمت ربك } ونحوه ولكن لا يلزم ان تكون الرحمة نبوة فالرحمة هنا هى طول العمر على قول من مذهب الى عدم نبوته { وعلمناه من لدنا علما } خاصا هو علم الغيوب والاخبار عنها باذنه تعالى على ما ذهب اليه ابن عباس رضى الله عنهما اوعلم الباطل.
قال فى بحر العلوم انما قال من لدنا مع ان العلوم كلها من لدنه لان بعضها بواسطة تعليم الخلق فلا يسمى ذلك علما لدنيا بل العلم اللدنى هو الذى ينزله فى القلب من غير واسطة احد ولا سبب مألوف من خارج كما كان لعمر وعلى ولكثير من اولياء الله تعالى المرتاضين الذين فاقوا بالشوق والزهد على كل من سواهم كما قال سيد الاولين والآخرين عليه السلام
"نفس من انفاس المشتاقين خير من عبادة الثقلين" وقال عليه السلام "ركعتان من رجل زاهد قلبه خير واحب الى الله من عبادة المتعبدين الى آخر الدهر" وقد صدق لكنه قليل كما قال { وقليل من عبادى الشكور } وقال { ولكن اكثر الناس لا يعلمون } ومن هنا يتبين لك معرفة رفعة الصحابة رضى الله عنهم وعظمهم رتبة ومكانا من الله فانهم ائمة المشتاقين والزاهدين الشاكرين ونجوم لهم يهتدون بهم انتهى.
وفى التأويلات النجمية { فوجدا عبدا من عبادنا } اى حرا من رق عبودية غيرنا من احرارانا اى ممن احررناهم من رق عبودية الاغيار واصطفيناهم من الاخيار { آتيناه رحمة من عندنا } يعنى جعلناه قابلا ليفيض نور من انوار صفاتنا بلا واسطة { وعلمناه من لدنا علما } وهو علم معرفة ذاته وصفاته الذى لا يعلمه احد الا بتعليمه اياه.
واعلم ان كل علم يعلمه الله تعالى عباده ويمكن للعباد ان يتعلموا ذلك العلم من غير الله تعالى فانه ليس من جملة العلم اللدنى لانه يمكن ان يتعلم من لدن غيره يدل عليه قوله
{ وعلمناه صنعة لبوس لكم } فان علم صنعة اللبوس مما علمه الله داود عليه السلام فلا يقال انه العلم اللدنى لانه يحتمل ان يتعلم من غير الله تعالى فيكون من لدن ذلك الغير وايضا ان العلم اللدنى ما يتعلق بلدن الله تعالى وهو علم معرفة ذاته وصفاته تعالى انتهى.
قال الجنيد قدس سره العلم اللدنى ما كان تحكما على الاسرار بغير ظن فيه ولا خلاف لكنه مكاشفات الانوار عن مكنونات المغيبات وذلك يقع للعبد اذا زم جوارحه عن جميع المخلوقات وافنى حركاته عن كل الارادات وكان شبحا بين يدى الحق بلا تمن ولا مراد.
قال حضرة الشيخ الاكبر قدس سره الا طهر باب الملكوت والمعارف من المحال ان ينفتح وفى القلب شهوة هذا الملكوت واما باب العلم بالله تعالى من حيث المشاهدة فلا ينفتح فى القلب لمحة للعالم باسره الملك والملكوت [درفتوحات ازسلطان العارفين قدس سره نقل ميكندكه باجمعى دانشمندان مى كفته] اخذتم علمكم ميتا عن ميت واخذنا علمنا عن الحى الذى لا يموت

كلشنى كز نقل وريد يكدمست كلشنى كز عشق رويد خرمست
كلشنى كز كل دمد كردد تباه كلشنى كز دل دمد وافرحتاه
علم جون بر دل زند يارى شود علم جون بر كل زند بارى شود

واعلم ان الصوفية سموا العلوم الحاصلة بسبب المكاشفات العلوم اللدنية وتفصيل الكلام انا اذا ادركنا امرا من الامور وتصورنا حقيقة من الحقائق فاما ان نحكم عليه بحكم وهو التصديق اولا نحكم وهو التصور وكل واحد من هذين القسمين فاما ان يكون ضروريا حاصلا من غر كسب وطلب واما ان يكون كسبيا اما العلوم الضرورية فهى تحصل فى النفس والعقل من غير كسب وكلب مثل تصورنا الالم واللذة والوجود والعدم ومثل تصديقنا بان النفى والاثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان وان الواحد نصف الاثنين واما العلوم الكسبية فهى التى لا تكون حاصلة فى جوهر النفس ابتداء بل لا بد من طريق يتوصل به الى اكتساب تلك العلوم فان كان التوصل الى استعلام المجهولات بتركيب العلوم البديهية فهو طريق النظر وان كان بتهيئة المحل وتصفيته عن الميل الى ما سوى الله تعالى فهو طريق الكشف والكشف انواع اعلاها اسرار ذاته تعالى وانوار صفاته وآثار افعاله وهو العلم الالهى الشرعى المسمى فى مشرب اهل الله علم الحقائق اى العلم بالحق سبحانه وتعالى من حيث الارتباط بينه وبين الخلق وانتشاء العالم منه بقدر الطاقة البشرية اذ منه ما ليس فى الطاقة البشرية وهو ما وقع فيه الكمل فى ورطة الحيرة واقروا بالعجز عن حق المعرفة وهذا العلم الجليل بالنسبة الى سائر العلوم كالشمس بالنسبة الى الذرات وكالبحر بالنسبة الى القطرات فعلوم اهل الله مبنية على الكشف والعيان وعلوم غيرهم من الخواطر الفكرية والاذهان وبداية طريقهم التقوى والعمل الصالح وبداية طريق غيرهم تحصيل الوظائف والمناصب وجمع الحطام الذى لا يدوم وقال المولى الجامى

جان زاهد ساحل وهم وخيال جان عارف غرقه بحر شهود

قال حضرة شيخى وسندى روح الله روحه الطيب وقدس سره الزكى فى كتاب اللائحات البرقيات المراد بالرحمة علم العبادة والدراسة والظاهر والشريعة ولذلك عبر عنه بالرحمة بناء على عمومه مثلها حيث قال { ورحمتى وسعت كل شئ } ولكون مقام هذا العلم الظاهرى مقام القرب الصفاتى عبر عن مقامه بما يعبر به عن مقام هذا القرب الصفاتى من قوله تعالى { من عندنا } اى من مقام واحدية صفاتنا ومرتبة قربها والمراد بالعلم علم الاشارة والواراثة والباطن والحقيقة ولذلك عبر عنه بلفظ العلم بناء على التعبير بالمطلق على الفرد الكامل اذ العلم الباطنى من العلم الظاهرى بمنزلة الروح واللب من الجسد والقشر وبمنزلة المعنى من الصورة فلا جرم ان العلم الباطنى من العلم الظاهرى بمنزلة الفرد الكامل من الفرد الناقص والعلم الظاهري من العلم الباطنى بمنزلة الفرد الناقص من الفرد الكامل من الفرد الكامل والنقصان الموهوم المعتبر فى العلم الظاهرى بحسب الاضافة والنسبة الى العلم الباطنى باعتبار المقام الذى يوجب الامتياز بينهما من جهة الصورة لا يقدح فى كماله الذاتى الحقيقى فى عينه ونفسه كما ان الكمال المعتبر فى العلم جهة التعين لا يزيدفى كماله الذاتى الحقيقى فى نفسه وذاته بل كل منهما من حيث هو بالنظر الى ذاته مع قطع النظر الى الاضافة والنسبة المعتبرة بينهما بحسب المقامات والتعلقات وغير ذلك كمال محض لا يتصور فى واحد منهما نقصان اصلا فكما ان الجهل والغفلة فى انفسهما محض نقصان حقيقى فكذلك العلم والمعرفة فى انفسهما محض كمال حقيقى وانما الاعتبارات لئلا تبطل حقائق الاحكام ولذا قيل لولا الاعتبارات اى الاضافات والنسب المعتبرة بين الاشياء لبطلت الحقائق ولما كان مقام هذا الباطنى مقام القرب الذاتى عبر عن مقام ما يعبر به عن مقام القرب الذاتى من قوله { من لدنا } اى من مقام احدية ذاتنا ومرتبتها ولذا خص كبار الصوفية فى اصطلاحاتهم لفظ العلم اللدنى بهذا العلم الباطنى الحاصل بمحض تعليم الله تعالى من لدنه بغير واسطة عبارة ولذلك قال بعضهم

تعلمنا بلا حرف وصوت قرآناه بلا سهو وفوت

يعنى بطريق الفيض الالهى والالهام الربانى لا بطريق التعليم اللفظى والتدريس القولى ولكون مقام العلم الظاهرى من مقام العلم الباطنى بمنزلة الظاهر من الباطن حيث يتعلق العلم الظاهرى بظواهر الشريعة وصورها والعلم الباطنى بمنزلة الباب من البيت ومن اراد دخول البيت فليأت من باب وبيت العلم ومدينته هو النبى عليه السلام وباب هذا البيت والمدينة هو على رضى الله عنه كمال قال عليه السلام "انا مدينة العلم وعلىّ بابها"

كرتشنه فيض حق بصدقى حافظ سرجشمه آن زساقى كوثر برس

واعلم ان التحقيق الحقيق فى هذا العلم المأمور موسى عليه السلام بتعلمه من الخضر هو العلم الباطنى المتعلم بطريق الاشارة لا العلم الباطنى المتعلم بطريق المكاشفة ولا العلم الظاهرى المتعلم بطريق العبارة والدليل عليه ارسال الحق سبحانه موسى الى عبده الخضر وعدم تعليمه بواسطة امين الوحى جبرائيل وتعليم الخضر بطريق الاشارة بالامور الثلاثة لكن لما كان الظاهر بالنظر الى غلبة جانب علم الظاهر فى وجود موسى ان يطلب تعلمه بطريق العبارة لا بطريق الاشارة وطريقه طريق الاشارة لا طريق العبارة قال انك لن تستطيع معى صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا من طريق التعلم بالاشارة لا بالعبارة والغالب عليك انما هو طريق العبارة لا طريق الاشارة كما ان الغالب على طريق الاشارة لا طريق العبارة ولكل وجهة وهوموليها قل كل يعمل على شاكلته.
ثم ان الامام الاعظم من الحسن البصرى رحمهما الله تعالى بمنزلة موسى من الخضر عليهما السلام كما ان العكس بالعكس من جهة ما هو الغالب فى نشأة كل منهما ولذلك افاد الامام الهمام العلم الظاهرى غالبا وتقيد بترتيب انوار الشريعة واحكامها عبارة وصراحة وافاد العلم الباطنى نادرا وتعرض لاسرار الحقيقة ودقائقها اشارة وكناية بخلاف الحسن البصرى فالامام شمسى المشرب والحسن قمرى المشرب ولذلك كان فلك الامام اعظم واوسع من فلك الحسن البصرى وكان الامام رحمة لاهل العموم عامة وكان الحسن البصرى رحمة لاهل الخصوص خاصة والامام مظهر اسم الرحمن والحسن مظهر اسم الرحيم ويدل على هذا كله انتشار مذهبه شرقا وغربا وهو من جميع المذاهب بمنزلة النبوة المحمدية والولاية العيسوية من جميع النبوات والولايات من جهة الخاتمية وحيث يختم به جميع المذاهب الحقة كما ختم بالنبوة المحمدية جميع النبوات ويختم بالولاية العيسوية جميع الولايات ولكون مشربه ومذهبه شمسيا سمى سراج الامة وكاشف الغمة ورافع الظلمة ودافع البدعة ومحيى الدين وحافظ الشريعة بالكتاب والسنة ولكون مشرب الحسن ومذهبه قمريا انار القلوب والنفوس والطبائع المظلمة بظلمة الغفلة والهوى بانوار المعرفة واسرار الحقيقة والهدى تبارك االذى جعل فى السماء بروحا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وفى تقديم السراج على القمر المنير اشارة الى تقديم رتبة الامام على رتبة الحسن اذ هو مظهر اسم الاول والظاهر والحسن مظهر اسم الآخر والباطن والاولان مقدمان على الثانيين بتقديم الهى فى قوله تعالى
{ هو الاول والآخر والظاهر والباطن } وهذا التفاوت انما هو باعتبار ترتيب المراتب واما فى اصل الكمال وحقيقة الفضل فهم كالحلقة المفرغة لا يدرى اين طرفاها لسر يعرفه من يعرف ويغفل عنه من يغفل ورئيس اهل الذكر الصوفية الحنفية هو الامام الاعظم الا كمل ورئيس اهل الذكر الصوفية هو الامام الشافعى الافضل ورئيس اهل الذكرالصوفية الحنبلية هو الامام الحنبلى التقى ورئيس اهل الذكر الصوفية المالكية هو الامام مالك الركى وهؤلاء الائمة العظماء كالخلفاء الاربعة الفخام كالنجوم بل كالاقمار بل كالشموس بايهم اقتدى السالك اهتدى الحق المبين وهم لدين الحق كالاركان الاربعة للبيت وهم ايضا من سائر الاقطاب والاولياء كالعرش والشمس من الافلاك النجوم وليس لغيرهم ممن بعدهم الى يوم القيامة بدون الاقتداء بهم اهتداء الى طريق الجنة والرؤية ومن اقتدى بهم فى الشريعة والطريقة والحقيقة وعلم علومهم وعمل اعمالهم وتأدب بآدابهم على مذهب أيهم كان بحسب وسعه فلا شك انه اقتفى اثر رسول الله عليه السلام ومن لم يقتد بهم فى ذلك فلا شك انه ضل عن اثر الرسول وخرج عن دائرة القبول هذا كله كلام حضرة شيخى وسندى مع اختصار.
واما ما يلوح من كلمات بعض المشايخ من ان المجتهدين لم ينالوا العشق فله محامل ذكرنا بعضا منها فى كتابنا الموسوم بتمام الفيض والذى يظهر انها كلمات صدرت حالة السكر والغلبات فلا اعتبار بها والادب التام ان يمسك عنهم الا بخير الكلام.