التفاسير

< >
عرض

فَحَمَلَتْهُ فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً
٢٢
-مريم

روح البيان في تفسير القرآن

{ فحملته } قال ابن عباس رضى الله عنهما فاطمأنت مريم الى قول جبريل فدنا منها فنفخ فى جيب درعها فوصلت النفخة الى بطنها فحملت عيسى عقيب النفخ.
يقول الفقير وصول النفخ الى الجوف لا يحتاج الى منفذ من المنافد كالفهم ونحوه ألا ترى ان الروح حين دخل جسد آدم دخل من اليافوخ وهو سط الرأس اذا اشتد وقبل اشتداده كما فى رأس الطفل يقال له الفادية بالفاء ثم نزل الى العينين ثم الى الفم ثم الى سائر الاعضاء.
واعلم ان لعيسى عليه السلام جهة جسمانية وجهة روحانية واحدية جمع للجهتين فاذا نظر الى جهة الجسمانية يظن انه تكون من ماء مريم واذا نظر الى جهة الروحانية وآثرها من احياء الموتى وخلق الطير من الطين يحكم انه من نفخ جبريل واذا نظر الى احدية جمعها يقال انه تكون منها فالتحقيق ان الملك لما تمثل لها بشرا سويا نزل الماء منها الى الرحم لشدة اللذة بالنظر اليه فتكون عيسى من ذلك الماء المتولد عن النفخ الموجب للذة منها فهو من ماء امه فقط خلافا للطبيعيين فانهم ينكرون وجود الولد من ماء احد الزوجين دون الآخر.
فان قلت قد ثبت ان ماء الرجل يكون من العظم والعصب وماء المرأة يكون من اللحم والدم فكيف جاء عيسى مركبا من هذه الاجزاء.
قلت خروجه على الصورة البشرية كامل الاجزاء انما هو من اجل امه لان ماءها محقق ومن اجل تمثل جبريل فى صورة البشر فانه انما مثل فى صورة البشر حتى لا يقع التكوين فى هذا النوع الانسانى الا على الحكم المعتاد الذى جرت به العادة غالبا وهو تولده من شخصين انسانين وقد توهمت فى النفخ الماء فحصل الماء المتوهم ايضا وجود بعض الاشياء قد يترتب على توهمه كترتب السقوط عن الجذع على توهمه ولاجل تكونه من نفخ جبريل طالبت اقامته فى صورة البشر لان للارواح صفة البقاء - روى - ان مولد عيسى عليه السلام كان قبل مولد نبينا عليه السلام بخمسمائة وخمس وخمسين سنة وقد بقى بعد وسينزل ويدعو الناس الى دين نبينا عليه السلام.
قال بعض الكبار لو لم يتمثل جبريل عند النفخ بالصورة البشرية لظهر عيسى على صورة الروحانيين ولو نفخ فيها وقت الاستعاذة على الحالة التى كانت عليها من تحرجّ صدرها وضجرها لتخيلها انه بشر يريد مواقعتها على وجه لا يجوز فى الشرائع لخرج عيسى بحيث لا يطيقه احد لشكاسة خلقه اى ردائته لسراية حال امه فيه لان الولد انما يتكوّن بحسب ما غلب على الوالدين من المعانى النفسانية والصورة الجسمانية.
نقل فى الاخبار ان امرأة ولدت ولدا صورته صورة البشر وجسمه جسم الحية فلما سئلت عنها اخبرت انها رأت حية عند المواقعة. وان امرأة ولدت ولدا له اعين اربع ورجلاء كرجل الدب وكانت قبطية جامعها زوجها وهى ناظرة الى دبين كانا عند زوجها فلما قال لها جبريل
{ انما انا رسول ربك } جئت من عنده { لاهب لك غلاما زكيا } ابنسطت عن ذلك القبض لما عرفت انه مرسل اليها من عند ربها وانشرح صدرها لما تذكرت بشارة ربها اياها بعيسى { اذ قالت الملائكة يا مريم ان الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها فى الدنيا والآخرة ومن المقربين } فنفخ فيها فى حين الانبساط والانشراح فخرج عيسى منبسطا منشرح الصدر لسراية حال امه فيه. ولذا قالوا يتفكر عند الجماع الاقوياء ويمثل بين عينيه صورة رجل على احسن خلقة واقوم جثة وافضل خلق واكمل حال قالوا حملته وسنها وقتئذ ثلاث عشرة سنة وقد حاضت حيضتين قبل ان تحمل. واختلف فى مدة حملها كما اختلف فى مدة حمل آمنة والدة النبى عليه السلام. ففى رواية عن ابن عباس كانت مدة الحمل والولادة ساعة واحدة وجعله بعضهم اصح لان عيسى كان مبدعا ولم يكن من نطفة يدور فى ادوار الخلقة ويؤيده عطف قوله { فانتبذت به } بالفاء التعقيبية.
يقول الفقير القول بان مثل هذه الفاء قد يدل على ترتيب الحكم وعدم تكونه من نطفة ظاهر الطبلان لانه من ماء محقق وماء متوهم كما سبق وكونه من المبدعات بلا سبب ظاهر لا يستلزم ان يكون جميع احواله بطريق خرق العادة.
وفى رواية اخرى عنه كانت تسعة اشهر كحمل اكثر النساء اذ لو كان اقل لذكرههنا فى جملة مدائحا وقيل ثمانية ولم يعش مولود وضع لثمانية الا عيسى وكان ذلك آية اخرى.
قال الحكماء فى بيان سبب ذلك ان الولد عند استكماله سبعة اشهر يتحرك للخروج حركة عنيفة اقوى من حركته فى الشهر السادس فان خرج عاش وان لم يخرج استراح فى البطن عقيب تلك الحركة المضعفة فلا يتحرك فى الشهر الثامن ولذلك تقل حركته فى البطن فى ذلك الشهر فاذا تحرك للخروج وخرج فقد ضعف غاية الضعف فلا يعيش لاستيلاء حركتين مضعفتين له مع ضعفه.
وفى كلام الشيخ محيى الدين بن العربى قدس سره لم ار للثمانية صورة فى نجوم المنازل ولهذا كان المولود اذا ولد فى الشهر الثامن يموت ولا يعيش وعلى فرض ان يعيش يكون معلولا لا ينتفع بنفسه وذلك لان الشهر الثامن يغلب فيه على الجنين البرد واليبس وهو طبع الموت{ فانتبذت به } الباء للملابسة والجار والمجرور فى حيز النصب على الحالية اى فاعتزلت ملتبسة به اى وهو فى بطنها كقوله تنبت بالدهن اى تنبت ودهنها فيها { مكان قصيا } مفعول انتبذت على تضمين معنى الاتيان كما سبق اى اتت مكانا بعيدا من اهلها.
قال الكاشفى { مكانى دورزشهرايليا كويند بكوهى رفت درجانب شرقى ازشهر يابوادى بيت لحم كه شش ميل دور بود از ايليا] وعن انس رضى الله عنه انه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديث الاسراء
"فقال لى جبريل انزل فصلى فصليت فقال أتدرى اين صليت صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى ابن مريم" وهو حديث صحيح او حسن رواه النسأى والبيهقى فى دلائل النبوة او اقصى الدار وهو الانسب لقصر مدة الحمل كما فى الارشاد.
وقال فى قصص الانبياء لما دنت ولادة مريم خرجت فى جوف الليل من منزل زكريا الى خارج بيت المقدس واحبت ان لا يعلم بها زكريا ولا غيره.