التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ
١٣
-البقرة

روح البيان في تفسير القرآن

{ واذا قيل لهم } من طرف المؤمنين بطريق الامر بالمعروف اثر نهيهم عن المنكر اتماماً للنصح واكمالا للارشاد فان كمال الايمان بمجموع الامرين الاعراض عما لا ينبغى وهو المقصود بقوله تعالى { لا تفسدوا فى الأرض } [الأعراف: 56].
والاتيان بما ينبغى وهو المطلوب بقوله تعالى { آمنوا } حذف المؤمن به لظهوره اى آمنوا بالله وباليوم الآخر او اريد افعلوا الايمان { كما آمن الناس } الكاف فى محل النصب على انه نعت لمصدر مؤكد محذوف اى آمنوا ايمانا مماثلا لايمانهم فما مصدرية او كافة اى حققوا ايمانكم كما تحقق ايمانهم. واللام فى الناس للجنس والمراد به الكاملون فى الانسانية العاملون بقضية العقل او للعهد والمراد به الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه او من آمن من اهل بلدتهم اى من اهل ضيعتهم كابن سلام واصحابه والمعنى آمنوا ايمانا مقرونا بالاخلاص متمحضا من شوائب النفاق مماثلا لايمانهم { قَالُوا } مقابلين للامر بالمعروف بالانكار المنكر واصفين للمراجيح الرزان بضد اوصافهم الحسان { انؤمن كما آمن السفهاء } الهمزة فيه للانكار واللام مشار بها الى الناس الكاملين او المعهودين او الى الجنس باسره وهم مندرجون فيه على زعمهم الفاسد والسفه خفة عقل وسخافة رأى يورثهما قصور العقل ويقابله الحلم والاناه وانما نسبوهم اليه مع انهم فى الغاية القاصية من الرشد والرزانة والوقار لكمال انهماك انفسهم فى السفاهة وتماديهم فى الغواية وكونهم ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا فمن حسب الضلال هدى يسمى الهدى لا محالة ضلالا او لتحقير شأنهم فان كثير من المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالى كصهيب وبلال او للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم على تقدير كون المراد بالناس عبد الله بن سلام وامثاله فان قيل كيف يصح النفاق مع المجاهرة بقوله { أنؤمن كما آمن السفهاء } قلنا فيه اقوال * الاول ان المنافقين لعنهم الله كانوا يتكلمون بهذا الكلام فى انفسهم دون ان ينطقوا به بألسنتهم لكن هتك الله تعالى استارهم واظهر اسرارهم عقوبة على عداوتهم وهذا كما ظهر ما اضمره اهل الاخلاص من الكلام الحسن وان لم يتكلموا به بالألسن تحقيقا لولا يتهم قال الله تعالى
{ يوفون بالنذر } [الإنسان: 7].
الى ان قال
{ إنما نطعمكم لوجه الله } [الإنسان: 9] وكان هذا فى قلوبهم فاظهره الله تعالى تشريفا لهم وتشهيرا لحالهم هذا قول صاحب التيسير. والثانى ان المنافقين كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين فاخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بذلك هذا قول البغوى. والثالث قول ابى السعود فى الارشاد حيث قال هذا القول وان صدر عنهم بمحضر من المؤمنين الناصحين لهم جوابا عن نصيحتهم لكن لا يقتضى كونهم مجاهرين لا منافقين فانه ضرب من الكفر أنيق وفن فى النفاق عريق لانه محتمل للشر كما ذكر فى تفسيره وللخير بان يحمل على ادعاء الايمان كأيمان الناس وانكار ما اهتموا به من النفاق على معنى أنؤمن كما آمن السفهاء والمجانين الذين لا اعتداد بايمانهم لو آمنوا ولا نؤمن كايمان الناس حتى تأمرون بذلك قد خاطبوا به الناصحين استهزاء بهم مرائين لارادة المعنى الاخير وهم يقولون على الاول فرد عليهم ذلك بقوله عز وجل { الا انهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } انهم هم السفهاء ولا يحيطون بما عليهم من داء السفه والمؤمنون بايمانهم واخلاصهم هربوا من السفه وغبوا فى العلم والحق وهم العلماء على الحقيقة والمستقيمون على الطريقة وهذا رد ومبالغة فى تجهيلهم فان الجاهل بجهله الجازم على خلاف ما هو الواقع اعظم ضلالة واتم جهالة من المتوقف المعترف بجهله فانه ربما يعذر وتنفعه الآيات والنذر.
واعلم ان قوله تعالى
{ وما يشعرون } [البقرة: 9].
فى الآية الاولى نفى الاحساس عنهم وفى الثانية نفى الفطنة لان معرفة الصلاح والفساد يدرك بالفطنة وفى الآية الثالثة نفى العلم وفى نفيها على هذه الوجوه تنبيه لطيف ومعنى دقيق وذلك انه بين فى الاول ان فى استعمالهم الخديعة نهاية الجهل الدال على عدم الحس وفى الثانى انهم لا يفطنون تنبيها على ان ذلك لازم لهم لان من لا حس له لا فطنة له وفى الثالث انهم لا يعلمون تنبيها على ان ذلك ايضا لازم لهم لان من لا فطنة له لا علم له فان العلم تابع للعقل – كما حكى – ان الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام اتى اليه جبرائيل بثلاث تحف العلم والحياء والعقل فقال يا آدم اختر من هذه الثلاث ما تريد فاختار العقل فاشار جبريل الى العلم والحياء بالرجوع الى مقرهما فقالا انا كنا فى عالم الارواح مجتمعين فلا نرضى ان يفترق بعضنا عن بعض فى الاشباح ايضا فنتبع العقل حيث كان فقال جبريل عليه السلام استقرا فاستقر العقل فى الدماغ والعلم فى القلب والحياء فى العين: قال المولى جلال الدين قدس سره

جمله حيوانرا بى انسان بكش جمله انسانرا بكش ازبهر هش
هش جه باشد عقل كل اى هو شمند عقل جز وى هش بود امانزند
لطف او عاقل كند مرنيل را قهر او ابله كند قابيل را

فليسارع العاقل الى تحصيل العلم والمعرفة حتى يصل الى توحيد الفعل والصفة.
قال الامام القشيرىرحمه الله للعقل نجوم وهى للشيطان رجوم وللعلوم اقمار هى للقلوب انوار واستبصار وللمعارف شموس ولها على اسرار العارفين طلوع والعلم اللدنى هو الذى ينفتح فى بيت القلب من غير سبب مألوف من الخارج وللقلب بابان باب الى الخارج يأخذ العلم من الحواس وباب الى الداخل يأخذ العلم بالالهام فمثل القلب كمثل الحوض الذى يجرى فيه انهار خمسة فلا يخلو ماؤه عن كدرة ما دام يحصل ماؤه من الانهار الخمسة بخلاف ما اذا خرج ماؤه من قعره حيث يكون ماؤه اصفى واجلى فكذا القلب اذا حصل له العلم من طريق الحواس الخمس الظاهرة لا يخلو عن كدرة وشك وشبهة بخلاف ما اذا ظهر من صميم القلب بطريق الفيض فانه اصفى واولى.
وقال الشيخ زين الدين الحافىرحمه الله والعجب ممن دخل فى هذه الطريقة واراد ان يصل الى الحقيقة وقد حصل من الاصطلاحات ما يستخرج بها المعانى من كتاب الله واحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم ثم لا يشتغل بذكر الله وبمراقبته والاعراض عما سواه لتنصب الى قلبه العلوم اللدنية التى لو عاش الف سنة فى تدريس الاصطلاحات وتصنيفها لا يشم منها رائحة ولا يشاهد من آثارها وانوارها لمعة فالعلم بلا عمل عقيم والعمل بلا علم سقيم والعمل بالعمل صراط مستقيم: قال فى المثنوى

آنكه بى همت جه با همت شده وآنكه باهمت جه با نعمت شده

وفى التأويلات النجمية { واذا قيل لهم } اى لاهل الغفلة والنسيان { آمنوا كما آمن الناس } اى بعض الناسين منكم الذين تفكروا فى آلاء الله تعالى وتدبروا آياته بعد نسيان عهد ألست بربكم ومعاهدة الله تعالى على التوحيد والعبودية فتذكروا تلك العهود والمواثيق فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به { قالوا } اى اهل الشقاوة منهم { أنؤمن كما آمن السفهاء } فكذلك احوال اصحاب الغفلات مدعى الاسلام اذا دعوا عن الايمان التقليدى الذى وجدوه بالميراث الى الايمان الحقيقى المكتسب بصدق الطلب وترك محبة الدنيا واتباع الهوى والرجوع الى الخق والتمادى فى الباطل ينسبون ارباب القلوب واصحاب الكرامات العالية الى السفه والجنون وينظرون اليهم بنظر العجز والذلة والقلة والمسكنة ويقولون انترك الدنيا كما ترك هؤلاء السفهاء من الفقراء لنكون محتاجين الى الخلق كما هم محتاجون ولا يعلمون انهم هم السفهاء لقوله تعالى { ألا أنهم السفهاء ولكن لا يعلمون } فهم السفهاء بمعنيين احدهما أنهم يبيعون الدين بالدنيا والباقى بالفانى لسفاهتهم وعدم رشدهم والثانى انهم سفهوا انفسهم ولم يعرفوا حسن استعدادهم للدرجات العلى والقربة والزلفى فرضوا بالحياة الدنيا ورغبوا عن مراتب اهل التقى ومشارب اهل النهى كما قال الله تعالى { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } [البقرة: 130].
فانه (من عرف نفسه فقد عرف ربه) ومن عرف ربه ترك غيره وعرف اهل الله وخاصته فلا يرغب عنهم ولا ينسبهم الى السفه وينظر اليهم بالعزة فان الفقراء الكبراء هم الملوك تحت الاطمار ووجوههم المصفرة عند الله كالشموس والاقمار ولكن تحت قباب العزة مستورون وعن نظر الاغيار محجوبون: قال فى المثنوى

مهر با كان درميان جان نشان دل مده الا بمهر دلخوشان
كرتوسنك سخره ومرمر شوى جون بصاحب دل رسى جوهر شوى
انهم تحت قبابى كامنون جزكه يزدانشان نداند زآزمون