التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ
١٥٨
-البقرة

روح البيان في تفسير القرآن

{ ان الصفا } علم لجبل بمكة وسمى الصفا لانه جلس عليه آدم صفى الله { والمروة } علم لجبل فى مكة ايضا وسمى المروة لانها جلست عليها امرأة آدم حواء عليهما السلام { من شعائر الله } جمع شعيرة بمعنى العلامة اى من اعلام طاعة الله فان كل واحد من المواقف والمساعى والمنحر جعله الله تعالى علامة لنا نعرف به العبادة المختصة ـ روى ـ انه كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له اساف وصنم على المروة على صورة امرأة يقال لها نائلة يروى انهما كانا رجلا وامرأة زنيا فى الكعبة فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما فلما طالت المدة عبدا من دون الله فكان اهل الجاهلية اذا سعوا بين الصفا والمروة مسحوهما تعظيما لهما فلما جاء الاسلام وكسرت الاوثان كره المسلمون الطواف بينهما لانه فعل الجاهلية فاذن الله تعالى فى الطواف بينهما واخبر انهما من شعائر الله.
والحكمة فى شرعية السعى بين الصفا والمروة ما حكى ان هاجر لما ضاق عليها الامر فى عطشها وعطش اسماعيل سعت فى هذا المكان الى ان صعدت الجبل ودعت فأنبع الله لها زمزم واجاب دعاءها فجلعها طاعة لجميع المكلفين الى يوم القيامة.
وفى الخبر
"الصفا والمروة بابان من الجنة وموضعان من مواضع الاجابة ما بينهما قبر سبعين الف نبى وسعيهما يعدل سبعين رقبةbr>" . { فمن حج البيت او اعتمر } الحج فى اللغة القصد والعمرة الزيارة وفى الحج والعمرة المشروعين قصد وزيارة { فلا جناح عليه } اى لا اثم عليه واصله من جنح اى مال عن القصد والخير الى الشر { ان يطوف بهما } اى فى ان يطوف بهما ويدور فأزال عنهم الجناح لانهم توهموا أن يكون فى ذلك جناح عليهم لاجل فعل الجاهلية وهو لا ينافى كون هذا الطواف واجبا كما عند الحنفية لان قولنا لا اثم فى فعل امر كذا يصح اطلاقه على الواجب واصل يطوف يتطوف وفى ايراد التفعل ايذان بان من حق الطائف ان يتكلف فى الطواف ويبذل فيه جهده { ومن تطوع خيرا } اصل التطوع الفعل طوعا لا كرها كانه قيل من فعل او اتى ما يتقرب به طائعا فنصب خيرا بتضمين تطوع فعلا يتعدى بنفسه او التطوع بمعنى التبرع من قولهم طاع يطوع اى تبرع فكأنه قيل من تبرع بما لم يفرض عليه من القربات مطلقا فانتصاب خيرا حينئذ على اسقاط حرف الجر اى من تطوع تطوعا بخير { فإن الله شاكر } له اى مجاز بعمله فان الشاكر فى وصف الله تعالى بمعنى المجازى على الطاعة بالاثابة عليها.
قال ابن التمجيد فى حواشيه الشكر من الله بمعنى الرضى عن العبد والاثابة لازم الرضى والرضى ملزوم الشكر فالشكر مجاز فى معنى الرضى ثم التجوز منه الى معنى الاثابة مجاز فى المرتبة الثانية { عليم } بطاعة المتطوع ونيته فيها.
وفى الآية حث على نوافل الطاعات كما على فرائضها فمن اتى بنافلة واحدة فان الله شاكر عليم فكيف باكثر منها فبالصوم تحصيل قهر النفس وبالزكاة تزكيها وبالصلاة المعراج الروحانى وبالحج الوصول.
وعن سفيان الثورى قال حججت سنة ومن رأيى ان انصرف من عرفات ولا احج بعد هذا فنظرت فى القوم فاذا انا بشيخ متكىء على عصا وهو ينظر الى مليا فقلت السلام عليك يا شيخ قال وعليك يا سفيان ارجع عما نويت فقلت سبحان الله من اين تعلم نيتى قال ألهمنى ربى فوالله لقد حججت خمسا وثلاثين حجة وكنت واقفا بعرفات ههنا فى الحجة الخامسة والثلاثين انظر الى هذه الرحمة وأتفكر فى امرى وامرهم ان الله هل يقبل حجهم وحجى فبقيت متفكرا حتى غربت الشمس وأفاض الناس من عرفات الى مزدلفة ولم يبق معى احد وجن الليل ونمت تلك الليلة فرأيت فى النوم كأن القيامة قد قامت وحشر الناس وتطايرت الكتب ونصبت الموازين والصراط وفتحت ابواب الجنان والنيران فسمعت النار تنادى وتقول اللهم وق الحجاج حرى وبردى فنوديت يا نار سلى غيرهم فانهم ذاقوا عطش البادية وحر عرفات ووقوا عطش القيامة ورزقوا الشفاعة فانهم طلبوا رضاى بانفسهم واموالهم قال الشيخ فانتبهت وصليت ركعتين ثم نمت ورأيت كذلك فقلت فى نومى هذا من الرحمن او من الشيطان فقيل لى بل من الله مد يمينك فمددت فاذا على كفى مكتوب من وقف بعرفة وزار البيت شفعته فى سبعين من اهل بيته قال سفيان وارانى المكتوب حتى قرأته ثم قال الشيخ فلم تمر على منذ حينئذ سنة الا وانا حججت حتى تم لى ثلاث وسبعون حجة كذا فى زهرة الرياض.
قال فى الاشباه والنظائر بناء الرباط بحيث ينتفع به المسلمون افضل من الحجة الثانية والحج تطوعا افضل من الصدقة النافلة وحج الفرض اولى من طاعة الوالدين بخلاف النفل وحج الغنى افضل من حج الفقير لان الفقير يؤدى الفرض من مكة وهو متطوع فى ذهابه وفضيلة الفرض افضل من فضيلة التطوع.
فعلى العاقل ان يقصد بيت الله ويزوره فان لم يساعده المال فلتساعده الهمة والحال فان المعتبر هو توجه القلب الى جانب الغيب لا مجرد توجه القالب: قال فى المثنوى

ميل تو سوى مغيلا نست و ريك تا جه كل جينى زخار مرده ريك

وفى التأويلات القاشانية { إن الصفا } وجود القلب { والمروة } وجود النفس { من شعائر الله } من اعلام دين الله ومناسكه القلبية كاليقين والتوكل والرضى والاخلاص والنفسية كالصبر والشكر والذكر والفكر { فمن حج البيت } اى بلغ مقام الوحدة الذاتية ودخل الحضرة الآلهية بالفناء الكلى الذاتى { واعتمر } زار الحضرة بالبلوغ الى مقام المشاهدة بتوحيد الصفات والفناء فى انوار تجليات الجمال والجلال { فلا جناح } فلا حرج { عليه } حينئذ فى { أن يطوف بهما } اى يرجع الى مقامهما ويتردد بينهما لا بوجودهما التلوينى فانه جناح وذنب بل بالوجود الموهوب الحقانى بعد الفناء عند التمكين ولهذا نفى الجناح فان فى هذا الوجود سعة بخلاف الاول { ومن تطوع خيرا } اى ومن تبرع خيرا من باب التكميل والتعليم والارشاد وشفقة الخلق فى مقام القلب ومن باب الاخلاق وطرف البر والتقوى ومعاونة الضعفاء والمساكين وتحصيل الهمم فى مقام النفس بعد كمال السلوك حال البقاء بعد الفناء { فان الله شاكر } شكر عمله بثواب المزيد { عليم } بانه من باب التصرف فى الاشياء بالله لا من باب التلوين والابتلاء والفترة انتهى كلام القاشانى

يا خفى الذات محسوس العطاء انت كالماء ونحن كالرحاء
انت كالريح ونحن كالغبار يختفى لاريح وغبراه جهار