التفاسير

< >
عرض

إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
١٦٤
-البقرة

روح البيان في تفسير القرآن

{ إن فى خلق السموات والارض } اى فى ابداعهما على ما هما عليه مع ما فيهما من تعاجيب العبر وبدائع الصنايع التى يعجز عن فهمها عقول البشر وانما جمع السموات وافرد الارض لان كل سماء ليست من جنس الاخرى بين كل سماءين من البعد مسيرة خمسمائة عام او لان فلك كل واحدة غير فلك الاخرى والارضون كلها من جنس واحد وهو التراب.
قال ابن التمجيد فى حواشيه وعند الحكماء محدب كل سماء مماس لمقعر ما فوق غير الفلك التاسع المسمى بالعرش فان محدبه غير مماس لشىء من الافلاك لان ما فوقه خلاء وبعد غير متناه عندنا وعند الحكماء لا خلاء فيه ولا ملاء والعلم عند الله { واختلاف الليل والنهار } اى فى تعاقبهما فى الذهاب والمجىء يخلف احدهما صاحبه اذا جاء احدهما جاء الآخر خلفه اى بعده وفى الزيادة والنقصان والظلمة والنور { والفلك التى تجرى فى البحر } لا ترسب تحت الماء وهى ثقيلة كثيفة والماء خفيف لطيف وتقبل وتدبر بريح واحدة والفلك فى الآية جمع وتأنيثه بتأويل الجماعة { بما ينفع الناس } ما اسم موصول والمصاحبة والجملة فى موضع النصب على الحالية من فاعل تجرى اى تجرى مصحوبة بالاعيان والمعانى التى تنفع الناس فانهم ينتفعون بركوبها والحمل فيها للتجارة فهى تنفع الحامل لانه يربح والمحمول اليه لانه ينتفع بما حمل اليه { وما } اى ان فيما { ما انزل الله من السماء } من لابتداء الغاية اى من جهة السماء { من ماء } بيان للجنس فان المنزل من السماء يعم الماء وغيره والسماء يحتمل الفلك على ما قيل من ان المطر ينزل من السماء الى السحاب ومن السحاب الى الارض ويحتمل جهة العلو سماء كانت او سحابا فان كل ما علا الانسان يسمى سماء ومنه قيل للسقف سماء البيت { فاحيى به } عطف على ما انزل اى نضر بالماء النازل { الارض } بانوا النبات والازهار وما عليها من الاشجار { بعد موتها } اى بعد ذهاب زرعها وتناثر اوراقها باستيلاء اليبوسة عليها حسبما تقتضيه طبيعتها.
قال ابن الشيخ فى حواشيه لما حصل للارض بسبب ما نبت فيها من انواع النبات حسن وكمال شبه ذلك بحياة الحيوان من حيث ان الجسم اذا صار حيا حصل فيه انواع من الحسن والنضارة والبهاء والنماء فكذلك الارض اذا تزينت بالقوة المنبتة وما يترتب عليها من انواع النبات { وبث فيها } اى فرق ونشر فى الارض { من كل دابة } من كل حيوان يدب على وجهها من العقلاء وغيرهم وهو معطوف على فاحيى والمناسبة ان بث الدواب يكون بعد حياة الارض بالمطر لانهم ينمون بالخصب ويعيشون بالمطر { وتصريف الرياح } عطف على ما انزل اى فى تقليبها فى مهابها قبولا ودبورا وشمالا وجنوبا وفى كيفيتها حارة وباردة وفى احوالها عاصفة ولينة وفى آثارها عقما ولواقح وقيل فى اتيانها تارة بالرحمة وتارة بالعذاب.
قال ابن عباس رضى الله عنهما اعظم جنود الله الريح والماء وسميت الريح ريحا لانها تريح النفوس.
قال وكيع الجراح لولا الريح والذباب لأنتنت الدنيا.
قال شريح القاضى ما هبت الريح الا لشفاء سقيم او لسقم صحيح وقال بكر بن عباس لا تخرج من السحاب قطرة حتى تعمل فى السحاب هذه الرياح الاربع فالصبا تهيجه والجنوب تقدره والدبور تلقحه والشمال تفرقه واصول الرياح هذه الاربع فالشمال من ناحية الشام والجنوب تقابلها والصبا هى القبول من المشرق والدبور تقابلها وكل ريح جاءت بين مهب ريحين فهى نكباء لانها نكبت اى عدلت ورجعت عن مهاب هذه الاربع.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص الرياح ثمان اربع رحمة واربع عذاب فالرحمة الناشرات وهى الرياح الطيبة والمبشرات وهى الرياح التى تبشر بالغيث واللواقح وهى التى تلقح الاشجار والذاريات وهى التى تذر والتراب وغيره والعذاب الصرصر والعقيم وهما فى البر والعاصف والقاصف وهما فى البحر والعقيم هى التى لم تلقح سحابا ولا شجرا والعاصف الشديدة الهجوم التى تقلع الخيام { والسحاب المسخر } عطف على تصريف اى الغيم المذلل المنقاد الجارى على ما اجراه الله تعالى عليه وهو اسم جنس واحده سحابة وسمى سحابا لانه ينسحب فى الجو اى يسير فى سرعة كأنه يسحب اى يجر { بين السماء والأرض } صفة للسحاب باعتبار لفظه وقد يعتبر معناه فيوصف بالجمع كما فى قوله تعالى
{ { سحابا ثقالا } [الأعراف: 57] اى لا ينزل الارض ولا ينكشف مع ان طبع السحاب يقتضى احد هذين النزول والانكشاف.
قيل لانه لو كان خفيفا لطيفا ينبغى ان يصعد ولو كثيفا يقتضى ان ينزل { لآيات } اسم ان دخلته اللام لتأخره عن خبرها ولو كان فى موضعه لما جاز دخول اللام عليه والتنكير للتفخيم كما وكيفا اى آيات عظيمة كثيرة دالة على القدرة القاهرة والحكمة الباهرة والرحمة والواسعة المقتضية لاختصاص الالوهية به سبحانه { لقوم } فى محل النصب لانه صفة لآيات فيتعلق بمحذوف { يعقلون } فى محل الجر على انه صفة لقوم اى يتفكرون فيها وينظرون اليها بعيون العقول والقلوب ويعتبرون بها لانها دلائل على عظم قدرة الله فيها وباهر حكمته فيستدلون بهذه الاشياء على موجدها فيوحدونه وفيه تعريض لجهل المشركين الذين اقترحوا على الرسول آية تصدقه فى قوله تعالى
{ { وإلهكم إله واحد } [البقرة: 163].
وتسجيل عليهم بسخافة العقول اذ لو عقلوه لكفاهم بهذه التصاريف آية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بهاbr>" . المج حقيقة قذف الريق ونحوه من الفم عدى بالباء لما فيه من معنى الرمى واستعير ههنا لعدم الاعتبار والاعتداد فان من تفكر فيها فكأنه حفظها ولم يلقها من فيه.
واعلم ان قوله تعالى
{ { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو } [البقرة: 163] اول آية نزلت فى التوحيد بحسب الرتبة اى اقدم توحيد من جهة الحق لا من جهتنا فان اول رتبة التوحيد من طرفنا توحيد الافعال وهذا هو توحيد الذات ولما بعد هذا التوحيد عن مبالغ افهام الناس نزل الى مقام توحيد الصفات بقوله الرحمن الرحيم ثم الى توحيد الافعال ليستدل به عليه فقال ان فى خلق الآية كذا فى التأويلات القاشانية.
ومن نتائج صفة الرحمن الرحيم فى حق الانسان ما اشار اليه فى قوله ان فى خلق الخ يعنى ان الحكمة فى خلق هذه الاشياء ان يكون كل شىء مظهر آية من آيات الله ولا فائدة لهذه الاشياء من الآيات المودعة فيها فان فائدتها عائدة الى الانسان لانهم قوم يعقلون الآيات كما قال
{ { سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } [فصلت: 53].
فالعالم بما فيه خلق بتبعية الانسان لان العالم مظهر آيات الحق والآيات المرئيات الانسان والانسان مظهر معرفة الحق ولهذا قال
{ { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [الذاريات: 56].
اى ليعرفون فلو لم يكن لاجل معرفة الله ما خلق الانسان ولو لم يكن لاجل الانسان ما خلق العالم بما فيه كما قال للنبى عليه الصلاة والسلام
"لولاك لما خلقت الكونbr>" . وكان العالم مرآة يظهر فيه آيات كمال الحق وجلاله والانسان هو المشاهد لآيات الجمال والجلال فى مرآة العالم وهو مرآة يظهر فيه مرآة العالم وما يظهر فيه كما قال تعالى { { وفى أنفسكم أفلا تبصرون } [الذاريات: 21].
وهذا تحقيق قوله
"من عرف نفسه فقد عرف ربهbr>" . لان نفسه مرآة جمال ربه وليس احد غير الانسان يشاهد حال ربه فى مرآة العالم ومرآة نفسه باراءة الحق كما قال { { سنريهم آياتنا } [فصلت: 53].
فاعرف قدرك لتعرف قدر ربك يا مسكين ومما يدل على ان خلق السموات والارض وما بينهما تبع لخلق الانسان قوله عليه الصلاة والسلام
"لا تقوم الساعة حتى لا يقال فى الارض الله الله" يعنى اذا مات الانسان الذى هو يقول الله الله قامت القيامة فلم تبق السموات والارض لان وجودهما كان تبعا لوجود الانسان فاذا لم يبق المتبوع ما بقى التابع كذا فى التأويلات النجمية.
فعلى السالك ان يصل بالذكر الحقيقى الى المقصود الاصلى فان التوحيد ينفى الباطل وينفى الاغيار.
روى عمران بن حصين قال
"قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لابى حصين كم تعبد اليوم من اله فقال اعبد سبعا ستا فى الارض وواحدا فى السماء قال وأيهم تعبده لرغبتك ورهبتك فقال الذى فى السماء فقال عليه الصلا والسلام فيكفيك اله السماء ثم قال يا حصين لو اسلمت علمتك كلمتين تنفعانك فأسلم حصين ثم قال يا رسول الله علمنى هاتين الكلمتين فقال عليه الصلاة والسلام قل اللهم ألهمنى رشدى واعذنى من شر نفسى"