التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٧٣
-البقرة

روح البيان في تفسير القرآن

{ إنما حرم عليكم الميتة } اى ما مات بغير ذكاة مما يذبح والسمك والجراد مستثنيان بالعرف لانه اذا قيل فلان اكل ميتة لم يسبقا الى الفهم ولا اعتبار للعادة قالوا من حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لم يحنث وان اكل لحما فى الحقيقة قال الله تعالى { { لتأكلوا منه لحما طريا } [النحل: 14].
والمراد بتحريم الميتة تحريم اكلها وشرب لبنها او الانتفاع بها لان الاحكام الشرعية انما تتعلق بالافعال دون الاعيان { والدم } الجارى والكبد والطحال مستثنيان ايضا بالعرف فهما حلالان { ولحم الخنزير } قد انعقد الاجماع على ان الخنزير حرام لعينه فيكون جميع اجزائه محرما وانما خص الله لحمه بالذكر لانه معظم ما ينتفع به من الحيوان فهو الاصل وما عداه تبع له { وما أهل به لغير الله } اى وحرم ما رفع به الصوت عند ذبحه للصنم واصل الاهلال رفع الصوت وكانوا اذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون اصواتهم بذكرها ويقولون باسم اللات والعزى فجرى ذلك من امرهم حتى قيل لكل ذابح وان لم يجهر بالتسمية مهل.
قال العلماء لو ذبح مسلم ذبيحة وقصد بها التقرب الى غير الله صار مرتدا وذبيحته ميتة وذبائح اهل الكتاب تحل لنا لقوله تعالى
{ { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } [المائدة: 5].
الا ان سموا غير الله فانها حينئذ لا تحل لهذه الآية فان قوله تعالى
{ { وطعام الذين } [المائدة: 5] الخ عام.
وقوله { وما أهل به لغير الله } خاص مقدم على العام { فمن } يحتمل ان تكون شرطية وموصولة { اضطر } اى احوج وألجئ الى اكل شىء مما حرم الله بان لا يجد غيرها وجد ان الاضطرار ان يخاف على نفسه او على بعض اعضائه التلف { غير } نصب على الحال فانه اذا صلح فى موضع لا فهو حال وان صلح فى موضع الا فهو استثناء والا فهو صفة وذو الحال ههنا فاعل فعل محذوف بعد قوله اضطر تقديره فمن اضطره احد امرين الى تناول شىء من هذه المحرمات احدهما الجوع الشديد مع عدم وجدان مأكول حلال يسد رمقه وثانيهما الاكراه على تناوله فتناول واكل حال كونه غير { باغ } على مضطر آخر بأن حصل ذلك المضطر الآخر من الميتة مثلا قدر ما يسد به جوعته فأخذه منه وتفرد بأكله وهلك الآخر جوعا وهذا حرام لان موت الآخر جوعا ليس اولى من موته جوعا { ولا عاد } من العدو وهو التعدى والتجاوز فى الامر لما حد له فيه اى غير متجاوز حد الشبع عند الاكل بالضرورة بان يأكل قدر ما يحصل به سد الرمق والجوعة { فلا إثم عليه } فى تناوله عند الضرورة { ان الله غفور } لما اكل فى حال الاضطرار { رحيم } بترخيصه ذلك ولم يذكر فى هذه الآية سائر المحرمات لانها ليست لحصر المحرمات بل هذه الآيات سيقت لنهيهم عن استحلال ما حرم الله وهم كانوا يستحلون هذه الاشياء فكانوا يأكلون الميتة ويقولون تأكلون ما امتم ولا تأكلون ما اماته الله وكذا يأكلون الدم ولحم الخنزير وذبائح الاصنام فبين انه حرمها فالمراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقا.
وقيل ذكر الميتة يتناول المتردية وهى الساقطة فى بئر او ماء او من علو والمنخنقة وهى ما اختنق بالشبكة او بحبل او خنق خانق والموقوذة وهى المضروبة بالخشب والنطيحة وهى المنطوحة وما اكل السبع ومتروك التسمية عمدا ونحوها ويكره عشرة من الحيوان الدم والغدة والقبل والدبر والذكر والخصيتان والمرارة والمثانة ونخاع الصلب. اما الدم فلقول تعالى
{ { حرمت عليكم الميتة والدم } [المائدة: 3] واما ما سواه فلانها من الخبائث.
قال الشيخ الشهير بأفتاده افندى ذكر ان النبى عليه السلام لم يأكل الطحال ولا الكلية ولا الثؤم وان لم يمنع عن اكلها فالاولى ان لا تؤكل اقتفاء لاثره ثم قيل فى وجهه ان المنى اذا نزل لم ينزل الا بعد اتصاله بالكلية. واما الطحال فلأنه من اطعمة اهل النار كذا فى واقعات الهدائى قدس سره ومن امتنع من الميتة حال المخمصة او صام ولم يأكل حتى مات اثم بخلاف من امتنع من التداوى حتى مات فانه لا يأثم لانه لا يقين بان هذا الدواء يشفيه ولعله يصح من غير علاج.
وذكر فى الاشباه والنظائر انه يرخص للمريض التداوى بالنجاسات وبالخمر على احد القولين واختار قاضى خان عدمه واساغة اللقمة بها اذا غص اتفاقا على ما نص عليه فى الخانية وما قال الصدر الشهيد من ان الاستشفاء بالحرام حرام فهو غير مجرى على اطلاقه لان الاستشفاء بالمحرم انما لا يجوز اذا لم نعلم ان فيه شفاء واما اذا علم ذلك وليس له دواء آخر غيره يجوز له الاستشفاء به ومعنى قول ابن مسعود رضى الله عنه ان الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم يحتمل ان عبد الله قال ذلك فى داء عرف له دواء غير محرم لانه حينئذ يستغنى بالحلال.
عن الحرام وفى التهذيب يجوز للعليل شرب البول والدم للتداوى اذا اخبره طبيب مسلم ان شفاءه فيه ولم يجد من المباح ما يقوم مقامه كذا فى شرح الاربعين حديثا لعلامة الروم ابن الكمال.
والاشارة فى قوله تعالى { إنما حرم عليكم الميتة } انه كما حرم على الظواهر هذه المعهودات حرم على البواطن شهود غير الله فالميتة هى جيفة الدنيا { والدم } هى الشهوات النفسانية قال عليه السلام
"ان الشيطان ليجرى فى ابن آدم مجرى الدمbr>" . ولولا ان الشهوات فى الدم مستكنة لما كان للشيطان اليه سبيل ولهذا قال عليه السلام "سددوا مجارى الشيطان بالجوعbr>" . لان الجوع يقطع مادة الشهوات { ولحم الخنزير } اشارة الى هوى النفس وتشبيه النفس بالخنزير لغاية حرصها وشرهها وخستها والخيرات المالية من غير اخلاص لله وفى الله بل للرياء والسمعة فى سبيل الهوى { فمن اضطر } اما لضرورة الحاجة النفسانية واما لضرورة امر الشرع باقامة احكام الواجبات عليه فليشرع فى شىء مما اضطر اليه { غير باغ } اى غير حريص على الدنيا وجمعها من الحرام والحلال وغير مولع على الشهوات بالحرام والحلال وغير مقبل الى استيفاء حظوظ النفس فى الحرام والحلال وغير مواظب على الرياء فى الطاعات والخيرات من السنن والبدع { ولا عاد } اى غير متجاوز من الدنيا حد القناعة وهى ما يسد الجوعة ويستر العورة { فلا إثم عليه } على من قام بهذه الشرائط { إن الله غفور رحيم } يغفر للعاملين له بآثار الرحمة والقائمين به بانوار الرحمة والماحين فيه باوصاف الرحمة التقطته من التأويلات النجمية.
والغفور والغفار هو الذى اظهر الجميل وستر القبيح والذنوب من جملة القبائح التى سترها باسباب الستر عليها فى الدنيا والتجاوز عن عقوبتها فى الآخرة وحظ العبد من هذا الاسم ان يستر من غيره ما يحب ان يستر منه وقد قال عليه السلام
"من ستر على مؤمن عورته ستر الله عورته يوم القيامةbr>" . والمغتاب والمتجسس والمكافىء على الاساءة بمعزل عن هذا الوصف وانما المتصف به من لا يفشى من خلق الله الا احسن ما فيه كما روى عن عيسى عليه السلام انه مر مع الحواريين بكلب قد غلب نتنه فقالوا ما انتن هذه الجيفة فقال عليه السلام ما احسن بياض اسنانها تنبيها على ان الذى ينبغى ان يذكر من كل شىء ما هو احسن كذا فى شرح الاسماء الحسنى للامام الغزالى قدس سره.