التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ
٢٠٧
-البقرة

روح البيان في تفسير القرآن

{ ومن الناس من يشرى نفسه } اى يبيعها ويبذلها فان المكلف لما بذل نفسه فى طاعة الله من الصوم والصلاة والحج والجهاد والزكاة وتوصل بذلك الى وجدان ثواب الله صار المكلف كأنه باع نفسه من الله تعالى بما نال من ثوابه وصار تعالى كأنه اشترى منه نفسه بمقابلة ما اعطاه من ثوابه وفضله { ابتغاء مرضاة الله } اى طلبا لرضاه { والله رؤف بالعباد } ولذلك يكلفهم التقوى ويعرضهم للثواب ومن جملة رأفته بعباده ان ما اشتراه منهم من انفسهم واموالهم انما هو خالص ملكه وحقه ثم انه تعالى يشترى منهم ملكه الخالص المحصور بما لا يعد ولا يحصى من فضله ورحمته رحمة واحسانا وفضلا واكراما.
وقيل نزلت فى صهيب بن سنان الرومى خرج من مكة يريد الهجرة الى النبى عليه الصلاة والسلام بالمدينة وهو ابن مائة سنة اتبعه نفر من مشركى قريش وقتلوا نفرا كانوا معه وكان معه كنانة فيها سهامه وكان راميا مصيبا فقال يا معشر قريش لقد علمتم انى من ارماكم رجلا والله لا اضع سهمى الا فى قلب رجل وايم الله لا تصلون الى حتى ارمى بكل سهم فى كنانتى ثم اضرب بسيفى ما بقى فى يديى ثم افعلوا ما شئتم ولن ينفعكم كونى فيكم فانى شيخ كبير ولى مال فى دارى بمكة فارجعوا وخذوه وخلونى وما انا عليه من الاسلام ففعلوا وسار هو الى المدينة فلما دخلها لقيه ابو بكر فقال له ربح البيع يا صهيب فقال وما ذاك يا ابا بكر فأخبره بما نزل فيه ففرح بذلك صهيب. فيشرى حينئذ بمعنى يشترى لجريان الحال على صورة الشراء لانه اشترى نفسه من المشركين ببذل ماله لهم.
واعلم ان المؤمنين باعوا باختيارهم انفسهم فكان ثمن نفس المؤمن الجنة اما الاولياء فانهم باعوا باختيارهم انفسهم فكان ثمن نفس الاولياء مرضاة الله تعالى وبينهما فروق كثيرة فعلى السالك ان يخرج من اوطان البشرية ويغترب عن ديار الاقران حتى يكون مجاهدا حقيقيا وشهيدا معنويا قال عليه الصلاة والسلام
"طوبى للغرباءbr>" . وقال ايضا "من مات غريبا فقد مات شهيداbr>" . يشير بذلك الى الانقطاع من الخلق الى الخالق وذلك لا يكون الا بمخالفة الجمهور فى العادات والشهوات وفى الحديث "يا انس ان استعطت ان تكون ابدا على وضوء فافعل فان ملك الموت اذا قبض روح العبد وهو على وضوء كتب له شهادةbr>" . وذلك لان الوضوء واشارة الى الانفصال عما سوى الله تعالى كما ان الصلاة اشارة الى الاتصال بالله تعالى وفى الحديث ايضا "دم على الطهارة يوسع عليك الرزقbr>" . فالطهارة الصورية سبب لتوسيع الرزق الصورى وكذا طهارة الباطن سبب لتوسيع الرزق المعنوى من المعارف والالهامات والواردات وعند ذلك يحيى القلب بالحياة الطيبة وتموت النفس عن صفاتها وليس ذلك الا اثر الجهاد الحقيقى فمن تخلص من قيد النفس ومات بالاختيار فهو حى ابدا: وفى المثنوى

اى بسا نفس شهيد معتمد مرده دردنيا وزنده مى رود

ولا بد للعبد من العروج من الخلق الى الخالق ومن الحاجة التامة لنفسه الى الغنى التام بالحق فى تحصيل كل الخيرات ودفع كل الآفات فاذا فر الى الله ووصل الى جماله وغرق فى مشاهدة جلاله شاهد سر قوله تعالى { { قل الله ثم ذرهم } [الأَنعام: 91] واول الامر ترك الاموال ثم ترك الاولاد ثم ترك النفس. فعند الاول يتجلى توحيد الافعال. وعند الثانى يتجلى توحيد الصفات. وعند الثالث يتجلى توحيد الذات وهو اعلى الدرجات.
فعلى العاقل اكثار ذكر الله فانه سبب لتصفية الباطن وصقالة القلب قال تعالى
{ { واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } [الجمعة: 10].
ولا فلاح اعظم من ان يصل الطالب الى المطلوب اللهم اجعلنا مفلحين.