التفاسير

< >
عرض

لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
٢٢٥
-البقرة

روح البيان في تفسير القرآن

{ لا يؤاخذكم الله باللغو } اللغو ما سقط من الكلام عن درجة الاعتبار يقال لغا لغوا اذا قال باطلا { فى ايمانكم } جمع يمين وهو الحلف وسميت بها لمعنيين. احدهما انها من اليمين التى هى اليد اليمنى وكانوا اذا تحالفوا فى العهود تصافحوا بالايمان فسميت بذلك. والثانى ان اليمين هى القوة قال تعالى { { لأخذنا منه باليمين } [الحاقة: 45].
وسميت به لان الحالف يتقوى بيمينه على حفظ ما حلف عليه من فعل او ترك والمراد باللغو فى الايمان ما لا عقد معه ولا قصد وهو ان يحلف الرجل بالله على شىء يظن انه صادق فيه وليس كذلك سواء كان الذى يحلف عليه ماضيا او غيره فليس له اثم ولا كفارة هذا عند ابى حنيفة واما عند الشافعى فلغو اليمين ما سبق اليه اللسان بلا قصد الحلف نحو لا والله وبلى والله مما يوكدون به كلامهم من غير اخطار الحلف بالبال ولو قيل لواحد منهم سمعتك تحلف فى المسجد الحرام لانكر ذلك ولعله قال لا والله الف مرة. وفى الآية معنيان احدهما لا يعاقبكم الله باللغو فى ايمانكم ظنا انكم صادقون فيه { ولكن يؤاخذكم } المؤاخذة مفاعلة من الاخذ وهى المعاقبة ههنا { بما كسبت قلوبكم } انطوت عليه واقترفت قلوبكم من قصد الاثم بالكذب فى اليمين وهو ان يحلف الرجل على ما يعلم انه خلاف ما يقوله وهى اليمين الغموس وسميت بالغموس لانغماس صاحبها فى الاثم بها. وثانيهما لا تلزمكم الكفارة بلغو اليمين الذى لا قصد معه ولكن تلزمكم الكفارة بما نوت قلوبكم وقصدت من اليمين لا بكسب اللسان وحده.
وفى التيسير ان هذه الآية فى مؤاخذة الآخرة فاما المؤاخذة المذكورة فى قوله تعالى
{ { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } [المائدة: 89].
فهى المؤاخذة بالكفارة لكنها فى اليمين المعقودة فالآيتان فى مؤاخذتين مختلفتين { والله غفور } حيث لم يؤاخذكم باللغو مع كونه ناشئا عن قلة المبالاة { حليم } حيث لم يعجل بالمؤاخذة وفيه ايذان بان المؤاخذة المعاقبة لا ايجاب الكفارة اذ هى التى تتعلق بها المغفرة والحلم دونه.
والفرق بين الحليم والصبور انه الذى لا يشمئز من الامر ثم لا يستفزه غضب ولا يعتريه غيظ ولا يحمله على المسارعة الى الانتقام مع غاية الاقتدار عجلة وطيش كما قال الله تعالى
{ { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة } [النحل: 61].
وحظ العبد من وصف الحليم ظاهر فالحلم من محاسن خصال العباد وفى الحديث
"ان الرجل المسلم ليدرك بالحلم مرتبة الصائم القائمbr>" . : قال الحسين الواعظ الكاشفى

علم باحلم حال روى بود علم بى حلم خاك كوى بود
بردبارى جوزينت خردست هركرا حلم نيست زيور يست

ثم انه قال قال العلماء اذا حلف بشىء فحنث ان كان مستقبلا فعليه كفارة وهو اليمين المنعقدة وان كان ماضيا فان كان الحالف عالما بالواقع وحلف على خلافه فاليمين كبيرة ولا كفارة عند ابى حنيفة فى الكبائر وعند الشافعى تجب الكفارة فيه وهو اليمين الغموس وان كان الحالف جاهلا بالواقع ويرى انه صادق فيه وليس كذلك فلا كفارة فيه وهو يمين اللغو عند ابى حنيفة واليمين الغموس عند الشافعى ويحكم فيه بالكفارة واليمين بالله او باسم من اسمائه او بصفة من صفاته فاليمين بالله ان يقول والذى اصلى له والذى نفسى بيده واليمين باسمائه كقوله والله والرحمن ونحوه واليمين بصفته كقوله وعزة الله وعظمته وجلال الله وقدرته ونحوها ومن حلف بغير الله مثل ان قال والكعبة وبيت الله ونبى الله او حلف بابيه ونحوه فلا يكون يمينا ولا تجب به الكفارة اذا خالف وهى يمين مكروهة قال الشافعى واخشى ان تكون معصية وفى الحديث "من حلف بغير الله فقد أشرك باللهbr>" . معناه من حلف بغير الله تعالى معتقدا تعظيم ذلك الغير فقد أشرك المحلوف به مع الله فى التعظيم المختص به ولو لم يكن على قصد التعظيم والاعتقاد به فلا بأس به كقوله لا وابى ونحو ذلك كما جرت به العادة.
قال على الرازى اخاف الكفر على من قال بحياتى وبحياتك وما اشبهه ولولا ان العامة يقولونه ولا يعلمونه لقلت انه الشرك لانه لا يمين الا بالله ولا يحلف بالبراءة من الاسلام فمن فعل ذلك صادقا لن يرجع الى الاسلام سالما وان كان كاذبا خيف عليه الكفر وفى الحديث
"من حلف بملة غير الاسلام كاذبا فهو كما قالbr>" . وظاهر الحديث يدل على ان المسلم ان قال ان افعل كذا فانا يهودى ففعل يكفر وبه عمل الشافعى وقال الحنفية لا يكفر فحملوا الحديث على التهديد واما ان علقه بالماضى كقوله ان فعلت كذا فانا يهودى وقد فعل فقد اختلفت الحنفية والصحيح انه لا يكفر ان كان يعلم انه يمين وان كان عنده انه يكفر بالحلف يكفر لانه رضى بالكفر وهو محمل الحديث عند الاكثر.
وفى الفتاوى البزازية والفتوى على انه يمين يلزم عليه الكفارة.
والاشارة فى الآية ان ما يجرى على الظواهر من غير قصد ونية فى البواطن ليس له كثير خطر فى الخير والشر ولا زيادة اثر ولو كان له اثر فى الخير لما عاب على قوم
{ { يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم } [الفتح: 11].
وكذا ما يجرى على اللسان بنية القلب بلا فعل الجوارح لو كان مؤثرا فى القبول لما عاب قوما بقوله
{ { كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } [الصف: 3].
ولو كان له اثر فى البر لما وسع على قوم بقوله { لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } [البقرة: 225].
وما عفا عن قوم بقوله
{ { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [النحل: 106].
وذلك لان القلب كالارض للزراعة والجوارح كالآلات للحراثة والاعمال والاقوال كالبذر فالبذر ما لم يقع فى الارض المربية للزراعة لا ينبت وان كان فى آلة من آلات الحراثة فافهم جدا.
واما ان كان لما يجرى على الظواهر من الخير ادنى آثار فى القلب ولو كان مثقال ذرة فان الله من كمال فضله وكرمه لا يضيعه حتى يكون القليل كثيرا والصغير عظيما وان كان لما يجرى على الظواهر من الشر ادنى اثر فى القلب فان الله تعالى من غاية لطفه واحسانه لا يؤاخذ العبد به بل يحلم عنه ويتوب عليه ويغفر له كما قال { والله غفور حليم } كذا فى التأويلات النجمية.