التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ
٢٤٩
-البقرة

روح البيان في تفسير القرآن

{ فلما فصل طالوت بالجنود } الاصل فصل نفسه ولما اتحد فاعله ومفعوله شاع استعماله محذوف المفعول حتى نزل منزلة اللازم كانفصل والمعنى انفصل عن بلده مصاحبا لهم لقتال العمالقة. والجنود جمع جند وهو الجيش الاشداء مأخوذ من الجند وهى الارض الشديدة وكل صنف من الخلق جند على حدة ـ روى ـ انهم لما رأوا التابوت لم يشكوا فى النصر فتسارعوا الى الجهاد فقال طالوت لا يخرج معى شيخ ولا مريض ولا رجل بنى بناء لم يفرغ منه ولا صاحب تجارة مشتغل بها ولا رجل عليه دين ولا رجل تزوج امرأة ولم يبن بها ولا ابتغى الا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع اليه ممن اختاره ثمانون الفا وكان الوقت قيظا اى شديد الحر وسلكوا مفازة فشكوا قلة الماء وسألوا ان يجرى الله لهم نهرا { قال } اى طالوت باخبار من النبى اشمويل { إن الله مبتليكم بنهر } اى معاملكم معاملة المختبر بما اقترحتموه وذلك الاختبار ليظهره عند طالوت من كان مخلصا فى نيته من غيره ليميزهم من العسكر لان من لا يريد القتال اذا خالط عسكرا يدخل الضعف فى العسكر فينهزمون بشؤمه

آنكه جنك آرد بخون خويش بازى ميكند روز ميدان آنكه بكريزد بخون لشكرى

فميز بينهما كالذهب والفضة فيهما الخبث فميز الخالص من غيره بالنار { فمن شرب منه } اى ابتدأ شربه من ماء النهر بان كرع وهو تناول الماء بفيه من موضعه من غير ان يشرب بكفيه ولا بآناء { فليس منى } اى من جملتى واشياعى المؤمنين فمن للتبعيض دخلت على نفس المتكلم للاشعار بان اصحابه لقوة اختصاصهم واتصالهم به كأنهم بعضه او ليس بمتحد معى فمن اتصالية كما فى قوله تعالى { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } [التوبة: 67] اى بعضهم متصل بالبعض الآخر ومتحد معه { ومن لم يطعمه } الطعم هنا بمعنى الذوق وهو التناول من الشىء تناولا قليلا يقال طعم الشىء اذا ذاقه مأكولا او مشروبا { فإنه منى } اى من اهل دينى { إلا من اغترف غرفة بيده } استثناء من قوله فمن شرب واعتراض الجملة الثانية وهو ومن لم يطعمه للعناية بها لان عدم الذوق منه رأسا عزيمة والاغتراف رخصة وبيان حال الاخذ بالعزيمة اهم من بيان الاخذ بالرخصة. والغرفة بالضم اسم للقدر الحاصل فى الكف بالاغتراف والغرف اخذ ماء بآلة كالكف وهو فى الاصل القطع والغرفة التى هى العلية قطعة من البناء والباء متعلقة باغترف.
قال ابن عباس رضى الله عنهما كانت الغرفة الواحدة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ويحمل منها.
قال الامام وهذا يحتمل وجهين. احدهما انه كان مأذونا له ان يأخذ من الماء ما شاء مرة واحدة بقربة او جرة بحيث كان المأخوذ فى المرة الواحدة يكيفه ودوابه وخدمه ويحمل باقيه. وثانيهما انه كان يأخذ القليل فيجعل الله فيه البركة حتى يكفى كل هؤلاء فيكون معجزة لنبى ذلك الزمان كما انه تعالى يروى الخلق الكثير من الماء القليل فى زمن محمد صلى الله عليه وسلم { فشربوا منه } اى فانتهوا الى النهر وابتلوا به وكرعوا فيه كروعا مثل الدواب ولم يقنعوا بالاغتراف فضلا عن ان لا يذوقوا منه شيأ { إلا قليلا منهم } وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا على عدد اهل بدر فانهم اغترفوا فشربوا بالاكف ورووا واما الذين خالفوا فشربوا كرعا فازدادوا عطشا واسودت شفاههم وبقوا على شط النهر فعرف طالوت الموافق من المخالف فخلف الاشداء

نه بى حكم شرع آب خوردن خطاست وكر خون بفتوى بريزى رواست

ولما ردوا بالخلاف فى صفة شرب ماء اصله حلال لكن على صفة مخصوصة وهلكوا بعد الرد فما حال من تناول الحرام المحض فى الطعام والشراب كيف يقبل ويسلم. ثم انه لا خلاف بين المفسرين فى ان الذين عصوا رجعوا الى بلدهم والصحيح انهم لم يجاوزوا النهر وانما رجعوا قبل المجاوزة لقوله تعالى { فلما جاوزه } اى النهر { هو } اى طالوت { والذين آمنوا } وهم القليل الذين اطاعوه ولم يخالفوه فيما ندبهم اليه. وفيه اشارة الى ان من عداهم بمعزل من الايمان { معه } اى مع طالوت متعلق بجاوز لا بآمنوا { قالوا } اى بعض من معه من المؤمنين القليلين لبعض آخر منهم وهم الذين يظنون الآية فالمؤمنون الذين جاوز النهر صاروا فريقين فريقا يحب الحياة ويكره الموت وكان الخوف والجزع غالبا على طبعه وفريقا كان شجاعا قوى القلب لا يبالى بالموت فى طاعة الله تعالى. والقسم الاول هم الذين قالوا { لا طاقة } قوة { لنا اليوم بجالوت وجنوده } اى بمحاربتهم ومقاومتهم فضلا عن ان يكون لنا غلبة عليهم وذلك لما شاهدوا منهم من الكثرة والقوة وكانوا مائة الف مقاتل شاكى السلاح. والقسم الثانى هم الذين اجابوهم بقولهم كم من فئة الآية { قال } كأنه قيل فماذا قال لهم مخاطبهم فقيل قال { الذين يظنون أنهم ملاقوا } نصر { الله } العزيز وتأييده { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة } اى كثير من الفئات القليلة غلبت الفئات الكثيرة. والفئة اسم للجماعة من الناس قلت او كثرت { بإذن الله } اى بحكمه وتيسيره فان دوران كافة الامور على مشيئته تعالى فلا يذل من نصره وان قل عدده ولا يعز من خذله وان كثر اسبابه وعدده فنحن ايضا نغلب جالوت وجنوده { والله مع الصابرين } بالنصرة على العدو وبتوفيق الصبر عند الملاقاة.
قال الراغب فى القصة ايماء ومثال للدنيا وابنائها وان من يتناول قدر ما يتبلغ به اكتفى واستغنى وسلم منها ونجا من تناول منها فوق ذلك ازداد عطشا ولهذا قيل الدنيا كالملح من ازداد منها عطش وفى الحديث
"لو ان لابن آدم واديين من ذهب لابتغى اليهما ثالثا فلا يملأ جوف ابن آدم الا التراب ويتوب الله على من تابbr>" . يعنى لا يزال حريصا على الدنيا حتى يموت ويمتلىء جوفه من تراب قبره الا من تاب فان الله يقبل التوبة من التائب عن حرصه المذموم وعن غيره من المذمات وههنا نكتة وهى ان فى ذكر ابن آدم دون الانسال تلويحا الى انه مخلوق من تراب ومن طبيعته القبض واليبس وازالته ممكنة بان يمطر الله عليه من غمام توفيقه فللعاقل ان لا يتعب نفسه فى جمع حطام الدنيا فان الرزق مقسوم.
اوحى الله الى داود [يا داود تريد واريد فان رضيت بما اريد كفيتك ما تريد وان لم ترض بما اريد اتعبك ثم لا يكون الا ما اريد] فالناس مبتلون بنهر هو منهل الطبيعة الجسمانية فمن شرب منه مفرطا فى الرى منه بالحرص فليس من اهل الحقيقة لانه من اهل الطبيعة وعبدة الشهوات المشتغل بها عن الله الا من قنع من متاع الدنيا على ما لا بد منه من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن ومحبة الخلق على الاضطرار بمقدار القوام فانه من اولياء الله. والحاصل ان النهر هو الدنيا وزينتها ومن بقى على شطها واطمأن بها كثير ممن جاوزها ولم يلتفت اليها فان اهل الله اقل من القليل واهل الدنيا لا يحصى عددهم رزقنا الله واياكم القوة والقناعة ولم يفصلنا عن اهل السنة والجماعة ـ روى ـ انه عليه السلام قال فى وصيته لابى هريرة رضى الله عنه
"عليك يا ابا هريرة بطريق اقوام اذا فزع الناس لم يفزعوا واذا طلب الناس الامان من النار لم يخافوا قال ابو هريرة من هم يا رسول الله قال قوم من امتى فى آخر الزمان يحشرون يوم القيامة محشر الانبياء اذا نظر اليهم الناس ظنوهم انبياء مما يرون من حالهم حتى اعرفهم انا فاقول امتى امتى فيعرف الخلائق انهم ليسوا انبياء فيمرون مثل البرق او الريح تغشى ابصارهم اهل الجمع من انوارهم فقلت يا رسول الله مرنى بمثل عملهم لعلى الحق بهم فقال يا ابا هريرة ركب القوم طريقا صعبا آثروا الجوع بعدما اشبعهم الله والعرى بعدما كساهم الله والعطش بعدما ارواهم الله تركوا ذلك رجاء ما عند الله تركوا الحلال مخافة حسابه صحبوا الدنيا بابدانهم ولم يشتغلوا بشىء منها عجبت الملائكة والانبياء من طاعتهم لربهم طوبى لهم وددت ان الله جمع بينى وبينهم ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً اليهم ثم قال عليه السلام اذا اراد الله باهل الارض عذابا فنظر اليهم صرف العذاب عنهم فعليك يا ابا هريرة بطريقهم" : قال الشيخ العطار قدس الله سره

درراه تومر دانند ازخويش نهان مانده بى جسم وجهت كشته بى نام ونشان مانده
تنشان بشريعت هم دلشان بحقيقت هم هم دل شده وهم جان نه اين ونه آن مانده

عليهم سلام الله ورحمته وبركاته اللهم اجعلنا من اللاحقين بهم آمين آمين.