التفاسير

< >
عرض

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٢٨
هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٢٩
-البقرة

روح البيان في تفسير القرآن

{ كيف تكفرون } كيف نصب حالا من الضمير فى تكفرون اى معاندين تكفرون وتجحدون{ بالله } اى بوحدانيته ومعكم ما يصرفكم عن الكفر الى الايمان من الدلائل الانفسية والآفاقية والاستفهام انكارى لا بمعنى انكار الوقوع بل بمعنى انكار الواقع واستبعاده والتعجيب منه لان التعجب من الله يكون على وجه التعجيب هو ان يدعو الى التعجب وكانه يقول ألا تتعجبون انهم يكفرون بالله كما فى تفسير ابى الليث.
وقال القاضى هو استخبار والمعنى اخبرونى على أى حال تكفرون { وكنتم امواتا } جمع ميت كاقوال جمع قيل اى والحال انكم كنتم امواتا اى اجساما لا حياة لها عناصر واغذية ونطفا ومضغا مخلقة وغير مخلقة.
قال فى الكشاف فان قلت كيف قيل لهم اموات حال كونهم جمادا وانما يقال ميت فيما نصح منه الحياة من البنى قلت بل يقال ذلك لعادم الحياة لقوله تعالى
{ بلدة ميتا } [الفرقان: 49].
{ فاحياكم } بخلق الارواح ونفخها فيكم فى ارحام امهاتكم ثم فى دنياكم وهذا الزام لهم بالبعث والفاء للدلالة على التعقيب فان الاحياء حاصل اثر كونهم امواتا وان توارد عليهم فى تلك الحالة اطوار مترتبة بعضها متراخ عن بعض كما اشير اليه آنفا ثم لما كان المقام فى الدنيا قد يطول جاء بثم حرف التراخى فقال { ثم يميتكم }عند انقضاء آجالكم وكون الامانة من دلائل القدرة ظاهر واما كونها من النعم فلكونها وسيلة الى الحياة الثانية التى هى الحيوان الابدى والنعمة العظمى { ثم يحييكم } للسؤال فى القبور فيحيى حتى يسمع خفق نعالهم اذا ولوا مدبرين ويقال من ربك ومن نبيك وما دينك ودل ثم التى للتعقيب على سبيل التراخى على انه لم يرد به حياة البعث فان الحياة يومئذ يقارنها الرجوع الى الله بالحساب والجزاء وتتصل به من غير تراخ فلا يناسب ثم اليه ترجعون ودلت الآية على اثبات عذاب القبر وراحة القبر كما فى التيسير { ثم اليه ترجعون } بعد الحشر لا الى غيره فيجازيكم باعمالكم ان خيرا فخير وان شرا فشر واليه تنشرون من قبوركم للحساب فما اعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه. فان قيل ان علموا انهم كانوا امواتا فاحياهم ثم يميتهم لم يعلموا انه يحييهم ثم اليه يرجعون.
قلت تمكنهم من العلم بهما لما نصب لهم من الدلائل منزل منزلة علمهم فى ازاحة العذر سيما وفى الآية تنبيه على ما يدل به على صحتها وهو أنه تعالى لما قدر أن أحياهم اولا قد أن يحييهم ثانياً فان بدأ الخلق ليس باهون عليه من إعادته { هو الذى خلق لكم } هذا بيان نعمة اخرى اى قدر خلقها لاجلكم ولا نتفاعكم بها فى دنياكم ودينكم لان الاشياء كلها لم تخلق فى ذلك الوقت { ما فى الارض } اى الذى فيها من الاشياء { جميعا } نصب حالا من الموصول الثانى وقد يستدل بهذا على ان الاصل فى الاشياء الاباحة كما فى الكواشى.
وقال فى التيسير اهل الاباحة من المتصوفة الجهلة حملوا اللام فى لكم فى قوله تعالى { هو الذي خلق لكم } على الاطلاق والاباحة على الاطلاق وقالوا لا حظر ولا نهى ولا امر فاذا تحققت المعرفة وتأكدت المحبة سقطت الخدمة وزالت الحرمة فالحبيب لا يكلف حبيبه ما يتعبه ولا يمنعه ما يريده ويطلبه وهذا منهم كفر صريح وقد نهى الله تعالى وامر وأباح وحظر ووعد واوعد وبشر وهدد والنصوص ظاهرة والدلائل متظاهرة فمن حمل هذه الآية على الاباحة المطلقة فقد انسلخ من الدين بالكلية انتهى كلام التيسير { ثم استوى الى السماء } قصد اليها اى الى خلقها بارادته ومشيئته قصدا سويا بلا صارف يلويه ولا عاطف يثنيه من ارادة شئ آخر فى تضاعيف خلقها او غير ذلك ولا تناقض بين هذا وبين قوله
{ والأرض بعد ذلك دحاها } [النازعات: 30] لان الدحو البسط.
وعن الحسن خلق الله الارض فى موضع بيت المقدس كهيئة الفهر اى الحجر ملئ الكف عليها دخان يلتزق بها ثم اصعد الدخان وخلق منه السموات وامسك الفهر فى موضعه ثم بسط منه الارض كذا فى الكواشى.
وقال ابن عباس رضى الله عنهما اول ما خلق الله جوهرة طولها وعرضها مسيرة الف سنة فى مسيرة عشرة آلاف سنة فنظر اليها بالهيبة فذابت واضطربت ثم ثار منها دخان فارتفع واجتمع زبد فقام فوق الماء فجعل الزبد ارضا والدخان سماء قالوا فالسماء من دخان خلقت وبريح ارتفعت وباشارة تفرقت وبلا عماد قامت وبنفخة تكسرت { فسواهن } اى اتمهن وقومهن وخلقهن ابتداء مصونات عن العوج والفطور لانه سواهن بعد ان لم يكن كذلك والضمير فيه مبهم فسر بقوله تعالى { سبع سموات } فهو نصب على انه تمييز نحو ربه رجلا.
قال سلمان هى سبع اسم الاولى رقيع وهى من زمردة خضراء واسم الثانية ارفلون وهى من فضة بيضاء والثالثة قيدوم وهى من ياقوته حمراء والرابعة ماعون وهى من درة بيضاء والخامسة دبقاء وهى من ذهب احمر والسادسة وفناء وهى من ياقوته صفراء والسابعة عروباء وهى من نور يتلألأ { وهو بكل شئ عليم } فيه تعليل كانه قال ولكونه عالما بكنه الاشياء كلها خلق ما خلق على هذا النمط الا كمل والوجه الا نفع واستدلال بان من كان فعله على هذا النسق العجيب والترتيب الانيق كان علميا فان اتقان الافعال واحكامها وتخصيصها بالوجه الاحسن الانفع لا يتصور الا من عالم حكيم رحيم وازاحة لما يختلج فى صدورهم من ان الابدان بعد ما تفتت وتكسرت وتبددت اجزاؤها واتصلت بما يشا كلها كيف يجمع اجزاء كل بدن مرة ثانية بحيث لا يشذ شئ منها ولا ينضم اليها ما لم يكن معها فيعاد منها كما كان. وفى هذه الآية اشارة الى مراتب الروحانيات فالاول عالم الملكوت الارضية والقوى النفسانية والثانى عالم النفس والثالث عالم القلب والرابع عالم العقل والخامس عالم السر والسادس عالم الروح والسابع عالم الخفاء الذى هو السر الروحى والى هذا اشار امير المؤمنين على رضى الله عنه بقوله سلونى عن طرق السماء فانى اعلم بها من طرق الارض وطرقها الاحوال والمقامات كالزهد والتقوى والتوكل والرضى وامثالها.
واعلم ان المراتب اثنتا عشرة على عدد السموات والعروش الخمسة. وكان الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره يقول للتوحيد اثناء عشر بابا فالجلوتية يقطعونها بالتوحيد لان سرهم فى اليقين والخلوتية يقطعونها بالاسماء لان سرهم فى البرزخ وهم يقولون جنة الافعال وجنة الصفات وجنة الذات وذلك لان الجنات على ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما سبع فاذا كان اربع منها لاهل اليقين اعنى الجلوتية فالثلاث لاهل البرزخ اعنى الخلوتية وهى الافعال والصفات والذات.
وفى التأويلات النجمية { كيف تكفرون بالله } اما خطاب توحيد للمؤمنين اى أتكفرون بالله وبانبيائه لانكم { كنتم امواتا } ذرات فى صلب آدم { فاحياكم } باخراجكم من صلبه وأسمعكم لذيد خطاب ألست بربكم وأذاقكم لذات الخطاب ووفقكم للجواب بالصواب حتى قلتم بلى رغبة لا رهبة { ثم يميتكم } بالرجعة الى اصلاب آبائكم والى عالم الطبيعة الانسانية { ثم يحييكم } ببعثة الانبياء وقبول دعوتهم { ثم اليه ترجعون } بدلالة الانبياء وقدم التوحيد على جادة الشريعة الى درجات الجنات واما خطاب تشريف للانبياء والاولياء اى أتكفرون وكنتم امواتا فى كتم العدم فاحياكم بالتكوين فى عالم الارواح ورشاش النور فخمر طينة ارواحكم بماء نور العناية وتخمير يد المحبة باربعى صباح الوصال ثم يميتكم بالمفارقة عن شهود الجمال الى مقبرة الحس والخيال ثم يحييكم اما الانبياء فبنور نور الوحى واما الاولياء فبروح روح نور الايمان ثم اليه ترجعون اما الانبياء فبالعروج واما الاولياء فبالرجوع بجذبات الحق كما قال تعالى
{ ارجعى الى ربك } [الفجر: 28].
فلما اثبت ان الرجوع اليه امر ضرورى اما بالاختيار كقراءة يعقوب ترجعون بفتح التاء وكسر الجيم واما بالاضطرار كقراءة الباقين اشار الى ان الذى ترجعون اليه { هو الذى خلق لكم ما فى الارض جميعا } اى ما خلقكم لشئ وخلق كل شئ لكم بل خلقكم لنفسه كما قال تعالى
{ واصطنعتك لنفسى } [طه: 41].
معناه لا تكن لشئ غيرى فانى لست لشئ غيرك فبقدر ما تكون لى اكون لك كما قال عليه السلام
"من كان لله كان الله له" وليس لشئ من الموجودات هذا الاستعداد اى ان يكون هو لله على التحقيق وان يكون الله له وفى هذا سر عظيم وافشاء سر الربوبية كفر فلا تشتغل بمالك عمن انت له فتبقى بلا هو { ثم استوى الى السماء فسواهن سبع سموات } فيه اشارة الى ان وجود السموات والارض كان تبعا لوجود الانسان { وهو بكل شئ عليم } اى عالم بخلق كل شئ خلقه ولاى شئ خلقه فكل ذرة من مخلوقاته تسبح بحمد ذاته وصفاته وتشهد على احديته وصمديته وتقول ربنا ما خلت هذا باطلا سبحانك: قال المولى الجامى قدس سره

دوجهان جلوكاه وحدت تو شهد الله كواه وحدت تو