التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ نَجَّيْنَٰكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ
٤٩
-البقرة

روح البيان في تفسير القرآن

{ واذ نجيناكم } خطاب لبنى اسرائيل اى اذكروا وقت تنجيتنا اياكم اى آباءكم فان تنجيتهم تنجية لا عقابهم ومن عادة العرب يقولون قتلنا كم يوم عكاظ اى قتل آباؤنا آباؤكم والنجو المكان العالى من الارض لان من صار اليه يخلص ثم سمى كل فائز ناجيا لخروجه من ضيق الى سعة اى جعلنا آباءكم بمكان حريز ورفعناكم عن الاذى { من آل فرعون } واتباعه واهل دينه.
وفرعون لقب من ملك العمالقة ككسرى لملك الفرس وقيصر لملك الروم وخاقان لملك الترك والنجاشى للحبشة وتبع لاهل اليمن.
والعمالقة الجبابرة وهم اولاد عمليق بن لاود بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام سكان الشام منهم سموا بالجبابرة وملوك مصر منهم سموا بالفراعنة ولعتوه اشتق منه تفرعن الرجل اذا عتا وتمرد فليس المراد الاستغراق بل الذين كانوا بمصر وفرعون موسى هو الوليد بن مصعب ابن الريان وكان من القبط وعمر اكثر من اربعمائة سنة.
وقيل انه كان عطارا اصفهانيا ركبته الديون فافلس فاضطر الى الخروج فلحق بالشام فلم يتيسر له المقام فدخل مصر فرأى في ظاهرها حملا من البطيخ بدرهم وفي سوقها بطيخة بدرهم فقال في نفسه ان تيسر لى اداء الديون فهذا طريقه فخرج الى السواد فاشترى حملا بدرهم فتوجه به الى السوق فكل من لقيه من المكاسين اى العشارين اخذ بطيخة فدخل البلد وما معه الا بطيخة فباعها بدرهم ومضى بوجهه ورأى اهل البلد متروكين سدى لا يتعاطى احد سياستهم وكان قد وقع بها وباء عظيم فتوجه نحو المقابر فرأى ميتا يدفن فتعرض لاوليائه فقال انا امين المقابر فلا ادعكم تدفنونه حتى تعطونى خمسة دراهم فدفعوها اليه ومضى لآخر وآخر حتى جمع في مقدار ثلاثة اشهر مالا عظيما ولم يتعرض له احد قط الى ان تعرض يوما لاولياء ميت فطلب منهم ما كان يطلب من غيرهم فابوا ذلك فقالوا من نصبك هذا المنصب فذهبوا به الى فرعون اى الى ملك المدينة فقال من انت ومن اقامك بهذا المقام قال لم يقمنى احد وانما فعلت ما فعلت ليحضرنى احد الى مجلسك فانبهك على اختلال حال قومك وقد جمعت بهذا الطريق هذا المقدار من المال فاحضره ودفعه الى فرعون فقال ولنى امورك ترنى امينا كافيا فولاه اياها فسار بهم سيرة حسنة فانتظمت مصالح العسكر واستقامت احوال الرعية ولبث فيهم دهرا طويلا وترامى امره في العدل والصلاح فلما مات فرعون اقاموه مقامه فكان من امره ما كان وكان فرعون يوسف عليه السلام ريان وبينهما اكثر من اربعمائة سنة { يسومونكم } اى يبغونكم { سوء العذاب } واقبحه بالنسبة الى سائره ويريدونكم عليه ويكلفونكم الاعمال الشاقة ويذيقونكم ويديمون عليكم ذلك من سام السلعة اذا طلبها والسوم بمعنى البغاء وبغى يتعدى الى مفعولين بلا واسطة فلذلك كان سوء العذاب منصوبا على المفعولية ليسومونكم والجملة حال من ضمير المفعول في نجيناكم والمعنى نجيناكم مسومين منهم اقبح العذاب كقولك رأيت زيدا يضربه عمرو اى رأيته حال كونه مضروبا لعمرو وذلك ان فرعون جعل بنى اسرائيل خدما وخولا وصنفهم فى الاعمال فصنف يبنون وصنف يحرثون ويزرعون وصنف يخدمونه ومن لم يكن منهم في عمل وضع عليهم الجزية.
وقال وهب كانوا اصنافا في اعمال فرعون فذووا القوة ينحتون السوارى من الجبال حتى قرحت اعناقهم وايديهم ودبرت ظهورهم من قطعها ونقلها وطائفة نجارون وحدادون والضعفة منهم يضرب عليهم الخراج ضريبة ويؤدونها كل يوم فمن غربت عليه الشمس قبل ان يؤدى ضريبته غلت يمينه الى عنقه شهرا والنساء يغزلن الكتان وينسجن وقيل تفسير قوله يسومونكم سوء العذاب ما بعده وهو قوله تعالى { يذبحون ابناءكم } كانه قيل ما حقيقة سوء العذاب الذي يبغونه لنا فاجيب بانهم يذبحون ابناءكم اى يقتلونهم والتشديد للتكثير كما يقال فتحت الابواب.
والمراد من الابناء هم الذكور خاصة وان كان الاسم يقع على الذكور والاناث في غير هذا الموضع كالبنين في قوله تعالى يا بنى اسرائيل فانهم كانوا يذبحون الغلمان لا غير وكذا اريد به الصغار دون الكبار لانهم كانوا يذبحون الصغار { ويستحيون نساءكم } اى يستبقون بناتكم ويتركونهن حيات وذكر النساء وان كانوا يفعلون هذا بالصغار لانه سماهن باسم المآل لانهن اذا استبقوهن صرن نساء بعد البلوغ ولانهم كانوا يستبقون البنات مع امهاتهن والاسم يقع على الكبيرات والصغيرات عند الاختلاط.
وذلك ان فرعون رأى في منامه كأن نارا اقبلت من بيت المقدس فاحاطت بمصر واخرجت كل قبطى بها ولم تتعرض لبنى اسرائيل فهاله ذلك وسأل الكهنة والسحرة عن رؤياه فقالوا يولد في بنى اسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك فامر فرعون بقتل كل غلام يولد في بنى اسرائيل وجمع القوابل فقال لهن لا يسقط على ايديكن غلام يولد فى بنى اسرائيل الا قتل ولا جارية الا تركت ووكل القوابل فكن يفعلن ذلك حتى قيل انه قتل في طلب موسى عليه السلام اثنى عشر الف صبى وتسعين الف وليد وقد اعطى الله نفس موسى عليه السلام من القوة على التصرف ما كان يعطيه اولئك المقتولين لو كانوا احياء ولذلك كانت معجزاته ظاهرة باهرة ثم اسرع الموت في مشيخة بنى اسرائيل فدخل رؤس القبط على فرعون وقالوا ان الموت وقع في بنى اسرائيل فتذبح صغارهم ويموت كبارهم فيوشك ان يقع العمل علينا فامر فرعون ان يذبحوا سنة ويتركوا سنة فولد هارون عليه السلام في السنة التى لا يذبح فيها وولد موسى في السنة التى يذبحون فيها فلم يرد اجتهادهم من قضاء الله شيأ وشمر فرعون عن ساق الاجتهاد وحسر عن ذراع العناد فاراد ان يسبق القضاء ظهوره ويأبى الله الا ان يتم نوره { وفي ذلكم } اشارة الى ما ذكر من التذبيح والاستيحاء { بلاء } اى محنة وبلية وكون استحياء نسائهم اى استبقائهن على الحياة محنة مع انه عفو وترك للعذاب لما ان ذلك كان للاسترقاق والاستعمال في الاعمال الشاقة ولان بقاء البنات مما يشق على الآباء ولا سيما بعد ذبح البنين { من ربكم } من جهته تعالى بتسليطهم عليكم { عظيم } صفة للبلاء وتنكيرهما للتفخيم ويجوز ان يشار بذلكم الى الانجاء من فرعون ومعنى البلاء حينئذ النعمة لان اصل البلاء الاختيار والله تعالى يختبر عباده تارة بالمنافع ليشكروا فيكون ذلك الاختبار منحة اى عطاء ونعمة واخرى بالمضار ليصبروا فيكون محنة فلفظ الاختبار يستعمل فى الخير والشر قال تعالى
{ { ونبلوكم بالشر والخير } [الأنبياء: 35].
ومعنى من ربكم اى يبعث موسى وبتوفيقه لتخليصكم منهم.
والاشارة ان النجاة من آل فرعون النفس الامارة وهى صفاتها الذميمة واخلاقها الرديئة في يوم سوء العذاب للروح الشريف بذبح ابناء الصفات الروحانية الحميدة واستحياء بعض الصفات القلبية لاستخدامهن في اعمال القدرة الحيوانية لا يمكن الا بتنجية الله كما قال عليه الصلاة والسلام
"لن ينجى احدكم عمله قيل ولا انت يا رسول الله قال ولا انا الا ان يتغمدنى الله بفضله" .
وفي ذلكم اى في استيلاء صفات النفس على القلب والروح بلاء عظيم وامتحان عظيم بالخير والشر فمن يهده الله ويصلح باله يرجع اليه الله في طلب النجاة فينجيه الله ويهلك عدوه ومن يضلله ويخذله اخلد الى الارض واتبع هواه وكان امره فرطا.
ثم في الآية الكريمة تنبيه على ان ما يصيب العبد من السراء والضراء من قبيل الاختبار فعليه الشكر في المسار والصبر على المضار: كما قال الحافظ

اكر بلطف بخوانى مزيد الطافست وكر بقهر برانى درون ما صافست

وسنته تعالى استدعاء العباد لعبادته بسعة الارزاق ودوام المعافاة ليرجعوا اليه بنعمته فان لم يفعلوا ابتلاهم بالسراء والضراء لعلهم يرجعون لان مراده تعالى رجوع العباد اليه طوعا وكرها فالاول حال الاحرار والثانى حال الاغيار.
قال داود بن رشيد من اصحاب محمد بن الحسن قمت ليلة فاخذنى البرد فبكيت من العرى فنمت فرأيت قائلا يقول يا داود انمناهم واقمناك فتبكي علينا فما نام داود بعد تلك الليلة كذا فى روضة الاخيار: قال في المثنوى

درد بشتم داد حق تا من زخواب بر جهم هرنيم شب لابد شتاب
تانخسبم جمله شب جون كاوميش دردها بخشيد حق ازلطف خويش

روى ان الله تعالى اوحى الى بعض انبيائه انزلت بعبدى بلائى فدعانى فماطلته بالاجابة فشكانى فقلت عبدى كيف ارحمك من شىء به ارحمك.
ومن ظن انفكاك لطفه تعالى فذلك لقصور نظرة في العقليات والعاديات والشرعيات.
اما العقليات فما من بلاء الا والعقل قاض بامكان اعظم منه حتى لو قدرنا اجتماع بلايا الدنيا كلها على كافر وعوقب فى الآخرة باعظم عذاب اهل النار لكان ملطوفا به اذ الله قادر على ان يعذبه باكثر من ذلك.
واما العاديات فما وجدت قط بلية الا وفى طيها خير وحفها لطف باعتبار قصرها على نوعها اذ المبتلى مثلا بالجذام والعياذ بالله ليس كالاعمى وهما مع الغنى ليسا كهما مع الفقر واجتماع كل ذلك مع سلامة الدين امر يسير.
واما الشرعيات فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"اذا احب الله عبدا ابتلاه فان صبر اجتباه وان رضى اصطفاه" .
وليخفف ألم البلاء عنك علمك بأن الله هو المبتلى اما عتبارا بان كل افعاله جميل او لانه عودك بالفعل الجميل والعطاء الجزيل.