التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
٨
-البقرة

روح البيان في تفسير القرآن

{ من الناس } لما افتتح سبحانه وتعالى كتابه بشرح حاله وساق لبيانه ذكر الذين اخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم وثنى باضدادهم الذين محضوا الكفر ظاهرا وباطنا ثلث بالقسم الثالث المذبذب بين القسمين وهم الذين آمنوا بافواههم ولم تؤمن قلوبهم تكميلا للتقسيم وهم اى المنافقون اخبث الكفرة وابغضهم الى الله لانهم موهوا الكفر وخلطوا به خداعا واستهزاء ولذلك طول فى بيان خبثهم.
قال القاشانى الاقتصار فى وصف الكفار المصرين المطبوع على قلوبهم على آيتين والاطناب فى وصف المنافقين فى ثلاث عشرة آية للاضراب عن اولئك صفحا اذ لا ينجع فيهم الكلام ولا يجدى عليهم الخطاب واما المنافقون فقد ينجع فيهم التوبيخ والتعبير وعسى ان يرتدعوا بالتشنيع عليهم وتفظيع شأنهم وسيرتهم وتهجير عادتهم وخبث نيتهم وسريرتهم وينتهوا بقبيح صورة حالهم وتفضيحهم بالتمثيل بهم وبطريقتهم فتلين قلوبهم وتنقاد نفوسهم وتزكى بواطنهم وتمضحل رذائلهم فيرجعون عما هم عليه ويصيرون من المستثنى فى قوله تعالى
{ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت لله المؤمنين أجرا عظيما } [النساء: 146].
والناس اسم جمع للانسان سمى به لانه عهد اليه فنسى قال تعالى
{ ولقد عهدنا الى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما } [طه: 115].
ولذلك جاء فى تفسير قوله تعالى
{ إن الإنسان لربه لكنود } [العاديات: 6] اى نساء للنعم ذكار للمحن وقيل لظهوره من آنس اى ابصر لانهم ظاهرون مبصرون ولذلك سموا بشرا كما سمى الجن جنا لاجتنانهم اى استتارهم عن اعين الناس وقيل هو من الانس الذى هو ضد الوحشة لانهم يستأنسون بامثالهم او يستأنس ارواحهم بابدانهم وابدانهم بارواحهم واللام فيه للجنس ومن فى قوله { من يقول } موصوفة اذ لا عهد فكأنه قال ومن الناس ناس يقولون اى يقرون باللسان والقول هو التلفظ بما يفيد ويقال بمعنى المقول وللمعنى المتصور فى النفس المعبرعنه باللفظ وللرأى وللمذهب مجازا ووحد الضمير فى يقول باعتبار لفظ من وجمعه فى قوله { آمنا } وقوله { وما هم } باعتبار معناها لان كلمة من تصلح للواحد والجمع او اللام فيه للعهد والمعهود هم الذين كفروا ومن موصولة مراد بها عبد الله بن ابى بن سلول واصحابه ونظراؤه من المنافقين حيث اظهروا كلمة الاسلام ليسلموا من النى عليه السلام واصحابه واعتقدوا خلافها واكثرهم من اليهود فانهم من حيث انهم صمموا على النفاق دخلوا فى عداد الكفار المختوم على قلوبهم واختصاصهم بزيادة زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا الجنس فان الاجناس انما تتنوع بزيادات يختلف فيها ابعاضها فعلى هذا تكون الآية تقسيما للقسم الثانى { آمنا بالله } اى صدقنا بالله { وباليوم الآخر } والمراد باليوم الآخر من وقت الحشر الى ما لا ينتاهى اى الوقت الدائم الذى هو آخر الاوقات المنقضية والمراد به البعث او الى ان يدخل اهل الجنة الجنة واهل النار النار لانه آخر الايام المحدودة اذ لا حد وراءه وسمى بالآخر لتأخره عن الدنيا وتخصيصهم للايمان بهما بالذكر له ادعاء انهم قد حازوا الايمان من قطريه واحاطوا به من طرفيه وايذان بانهم منافقون فيما يظنون فيه فكيف بما يقصدون به النفاق لان القوم كانوا يهودا وكانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر ايمانا كلا ايمان لاعتقادهم التشبيه واتخاذ الولد وان الجنة لا يدخلها غيرهم وان النار لن تمسهم الا أياماً معدودة وغيرها ويرون المؤمنين انهم آمنوا مثل ايمانهم وحكاية عبارتهم لبيان كمال خبثهم فان ما قالوه لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم عقيدتهم لم يكن ذلك ايمانا فكيف وهم يقولونه تمويها على المسلمين واستهزاء بهم فكان خبثا الى خبث وكفرا الى كفر { وما هم بمؤمنين } ما نائبة عن ليس ولهذا عقب بالباء اى ليسوا بمصدقين لانهم يضمرون خلاف ما يظهرون بل هم منافقون وفى الحكم عليهم بانهم ليسوا بمؤمنين نفى ما ادعوه على سبيل البت والقطع لانه نفى اصل الايمان منهم بادخال الباء فى خبر ما ولذا لم يقل وما هم من المؤمنين فان الاول ابلغ من الثانى. دلت الآية على ان الدعوى مردودة اذا لم يقم عليها دلائل الصحة قال قائلهم من تحلى بغير ما فيه فضح الامتحان ما يدعيه فان من مدح نفسه ذم ومن ذم نفسه مدح قالوا فرعون عليه لعنات الله { وانا من المسلمين } [يونس:90] فقيل وكنت من المفسدين وقال يونس عليه السلام { لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين } [الأنبياء: 87] فقيل له { فلولا انه كان من المسبحين } [الصافات: 143] قال الحافظ قدس سره

خوش بود كر محك تجربه آيد بميان تاسيه روى شود هركه دروغش باشد

- حكى - ان شيخا كان له تلميذ يدعى انه امين والشيخ يعلم منه خلاف ذلك وهو يرد على الشيخ فى ذلك ويدعى الامانة ويطلب منه ان يكشف له سرا من اسرار الله تعالى فاخذ الشيخ يوما تلميذا من اصحابه وخبأه فى بيت وعمد الى كبش فذبحه والقاه فى عدل ودخل ذلك التلميذ المدعى فرأى الشيخ ملطخا بالدماء والعدل امامه والسكين فى يده فقال له يا سيدى ما شأنك فقال له غاظنى فلان يعنى ذلك التلميذ فقتلته يعنى التلميذ يعنى بقتله مخالفة هواه حتى لا يكذب الشيخ فتخيل التلميذ انه فى العدل فقال الشيخ هذه امانة فاستر على وادفن معى هذا المذبوح الذى فى هذا العدل فدفنه معه فى الدار وقصد الشيخ نكاية ذلك التلميذ وان يفعل معه ما يخرجه وجاء ابو ذلك المخبوء يطلب ابنه فقال له الشيخ هو عندى فمضى الرجل فلما كبر على الرجل نكاية الشيخ مشى الى والد ذلك المخبوء وأخبره ان الشيخ قتله ودفنه معه ورفع ذلك الى السلطان فتوقف السلطان فى ذلك الامر لما يعرفه من جلالة الشيخ وبعث اليه بالقاضى والفقهاء واخذ ذلك التلميذ يسب الشيخ ووقف الشهود حتى حضروا الى العدل فعاينوا الكبش وخرج التلميذ المخبوء وافتضح وندم حيث لا ينفعه الندم كذا فى الرسالة المسماة بالامر المحكم المربوط فيما يلزم اهل طريق الله من الشروط للشيخ الاكبر قدس سره الاطهر فظهر من هذا ان الاسرار لا توهب الا للامناء والانوار لا تفيض الا على الادباء: قال الحافظ قدس سره

-حديث دوست نكويم مكر بحضرت دوست كه آشنا سخن آشنانكه دارد

وفى التأويلات النجمية { ومن الناس } هم الذين نسوا الله ومعاهدته يوم الميثاق فمنهم { من يقول آمنا بالله } يقولون بافواههم ما ليس فى قلوبهم فان الايمان الحقيقى ما يكون من نور الله الذى يقذفه الله فى قلوب خواصه { وباليوم الآخر } اى بنور الله يشاهد الآخرة فيؤمن به فمن لم ينظر بنور الله فلا يكون مشاهدا لعالم الغيب فلا يعلم الغيب فلا يكون مؤمنا بالله وباليوم الآخر ولهذا قال { وما هم بمؤمنين } اى بالذين يؤمنون من نور الله تعالى وفيه معنى آخر وما هم بمستعدين للهداية الى الايمان الحقيقى لانهم فى غاية الغفلة والخذلان انتهى.